دعوة المظلومة


قيس الدمشقي *

( ثقافات )



(ترهقني الأعمال المنزلية فلا أمارس منها إلا “الجَلي”. أراكمه عامدا سابحا بماء موعدي معه.شغوف بنصاعة الأواني لتشع بالأمل. أنا مع “الجلي” وضد” الجلوة العشائرية “!).
هذا ما كتبته على صفحتي على فيسبوك صبيحة الجمعة الماضية فجاءت بعض اللايكات والتعليقات والمداعبات والمناكفات والشماتات البريئة من الأصدقاء على حائطي”الواطي” المتسامح، وعلى الإنبوكس- كما العادة- جاءت الرسائل المختلفة من الأصدقاء والصديقات غير القادرين على وضع لايك أو تعليق على ما أنشر لظروف مختلفة أقدّر بعضها، وأتفهم بعضها الآخر دون مضض ولا أمانع شخصا في اختيار طريقته في التعبيروالتواصل.
الرسائل على الإنبوكس تراوحت بين “مسحورة” بسخريتي اللاذعة المكثفة في نقد “الجلوة العشائرية” في القرن الواحد والعشرين، وبعضها جاء “حاسدا” عزوبيتي المضحكة التي يتمنى لو يشاركنيها، والبعض كان متطرفا في انتقادي بأني “أتدلّل”في اغترابي بأبوظبي وماذا يعني أن أقوم بجلي الأواني!


والجلي علاقتي به غريبة فقد كنت أرفض مساعدة شقيقاتي فيه أو مجرد التفكير بذلك وبطريقة مضحكة نتيجة شعور ذكوري بأن الجلي مهمة البنات ولا يليق بالرجال، ولم أكن أيامها بلغت مبلغ الصبيان، بل كنت أقع في مشاجرات مع شقيقاتي وأنا في أوائل المرحلة الإعدادية (الصف السابع) لإجبارهن على كي ملابسي ولأني لا أجيد الكي ولا يليق بي تعلمه! وكان يقمع تجبري ذاك والدي رحمه الله ويدعو عليّ متوعدا: “عساك ما لبست” ويردف: “والله أكوي رآسك”. كان ديمقراطيا في أحوال ومستبدا في أخرى!


أذكر أيضا أني حين كبرت قليلا أحببت الجلي حين كنت أظل ملازما المطبخ قرب شقيقتي الراحلة بسمة وهي تقوم بالجلي على أنغام أم كلثوم وتغني لي معها، وتقول هذه الأغنية كلمات فلان وألحان علان وهذه قصيدة مناسبتها كذا وتلك أغنية حكايتها كذا.وأنا أراقب الكلمات والألحان ويوما بعد يوم صرت أساعدها في بعض “مهمات” الجلي، وكنت أشكو لها طول الموسيقى في أغاني أم كلثوم وتكرارها للمقاطع. وكانت إذ ذاك أمي تكيل لي تهم “الأنوثة” بمكوثي الطويل في المطبخ، وتضرب لي من لاذع قصائدها وترويداتها وأمثالها ما كان يؤذي “رجولتي”. أما والدي فقد كنت أهرب منه قبل أن يضبطني في المطبخ ونغلق فور تلمسنا قدومه صوت أم كلثوم لأسباب دينية اجتماعية متشددة إذ كان يردد عن أم كلثوم – بطريقته- قول الشيخ عبد الحميد كشك:” امرأة في سن السبعين تقول “خدني لحنانك خدني” ..ربنا ياخدك يا شيخة”! 

  

بسمة هي شقيقتي التي علمتني القراءة والكتابة قبل دخول المدرسة بشهور ودلتني على الكتب والروايات والشعر ومن روحها نهلت الكثير من الوعي والنقاء والبهاء والتسامح والرقة والسخرية اللاذعة والنكتة الرشيقة، ولقد صالحتني بعد رحيلها- الذي ذراني سنين عجافا- بالأحلام الدائمة وقولها الدائم إنها سعيدة وتقدر وفائي لها؛ فلم أعد أحس بفقدها جارحا ولا أعتبرها رحلت مطلقا فهي حية في روحي ووجداني وقلمي، وكل “نجاح” حققته فإنما بفضل روحها الحاضرة دوما في وجداني.
وهي التي حببت لنفسي مزاولة “الجلي” في مكتبي وفي الغربة ولاسيما في شيكاغو حيث كنت أذهل رفقاء السكن “متعددي الجنسيات “بهذه الرغبة الهادئة العارمة التي لم افصح لهم سرها ولكنهم كانوا مرتاحين من “المسألة” التي خففت إشكاليات توزيع الأدوار الجسيمة ، وفي بيلنجهام استراحت صديقتي ناتالي والصديقان هاكوب وفاتشيه من مهام الجلي الذي كنت أرفض أن يقوم به غيري رغم اعتراضهم في البداية على قاعدتهم الاجتماعية كأمريكيين “كل يقوم بجلي ما يستعمله”، والحقيقة أن الذي لم يعترض وارتاح لهذا التطوع العربي الطريف هو ابنهما هاكوب الجميل ابن العشرين ربيعا المتكاسل عن غسل ملعقة متحججا بالنسيان ومستعينا بطرافة لذيذة أنه لا يريد أن يحرمني متعتي الغريبة.


أهم الرسائل على الإنبوكس تعليقا على “حبي” للجلي كانت غريبة وطريفة بسبب ما تبعها، كانت من صديقة مصرية مثقفة ولاذعة و”متصوفة” قالت بمحبة: (يا سلام على الرجالة البهاوات اللي ما يقدروش الا على شطف الصحون..ربنا يبليك باللي باليني فيه وتكنس وتشطف البيت ..”وتنده ع القضايا”)! رددت عليها ممازحا : يا ناس يا شر كفاية أر..بهاوات مين والناس نايمين يا اسمك إيه”!


بعد ساعة من رسالتها كانت شقتي تغرق بالماء المتسرب بغزارة فهرعت متتبعا الأمر فكان مصدر التدفق الغزير من أسفل الباب الرئيسي للشقة. فتحته فتدفق الماء مدرارا ففصلت الكهرباء لاقتراب الماء سريعا من توصيلات الكهرباء على الأرض. كان جاري في الطابق العلوي قد نسي صنبور ماء أو “انفجر” في شقته وحين هاتفه الجيران ذكر أنه لا يعرف السبب واعتذر أنه في الأردن.
كانت شقتي المتضرر الأوحد من شلالات الماء المنسكبة بغزارة مطرا في نيسان الجميل. فكرت بالاتصال بالدفاع المدني! ولكني هاتفت المؤجر فأرسل عاملا هنديا بعد نصف ساعة ومكث نصف ساعة أخرى بالاهتداء إلى إغلاق المحبس الرئيسي للماء عن العمارة كاملة كحل تكتيكي.
ما إن اهتدى لذلك حتى كنت شطفت مدخل الشقة ساعة كاملة مانعا تدفق الماء وبمساعدة جاري المصري المهندس الذي كان مثالا في “جار الرضا”. وبعد أن انتهيت من منع تدفق الماء إلى الشقة بقيت “أشطف” ساعة اخرى حتى هدت قواي وأنا أدعو لصديقتي المصرية وأخاف من دعواتها ..واقتنعت تماما بأنها مظلومة لأنها تزوجت كرها في محافظة مصرية قصية من ابن عمها الحقوقي الذي لا يساعدها في أي شيء ولا حتى في الجلي لأنه برأيه من مهام النساء!
“بركاتك يا اسمك إيه”!
*روائي وصحفي من الأردن

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *