المتوكل طه *
(1)
في آذارَ؛
يعودُ الحَنّونُ،
ويَلِدُ الحجرُ النبويُّ جدائلهَ المائيةَ،
وتكونُ ظلالُ تماثيلِ النثرِ
على مدّ النور،
وهذا ما ينبضُ بالطفلِ،
وللطفلِ عواصفُهُ البيضاء.
وللطفلِ حكاياهُ المُوجِعةُ ومِرآةٌ تَبْكيهِ
وأشياءُ.. وأشياء..
وضاعت في البَرِّ الخائفِ
في ليْلةِ هِجْرَتهِ..
قالوا: يَنسى الطفلُ
ويذهبُ في مَأْتمِ والدهِ بعدَ قليلٍ،
وتضيعُ الخارطةُ وتصبحُ رُؤْيتُهُ صَمّاء.
لكنَّ الطفلَ يُخبّئُ طاقيةَ إخفاءِ
الوطنِ الأندلسيِّ ببيتٍ مِن شِعْرٍ،
وبثوبِ حليبٍ تَلْبِسهُ الجَدّاتُ،
فتشتعلُ ضِفافُ الغُربةِ بغِناءٍ
أقسى مِن شوكِ الصحراء.
والطفلُ!
تكلّمَ فارتبكت أسماءُ المُدنِ،
وأسْهمَ فاستيقظ كفُّ الوردِ،
وراحَ إلى الصمتِ،
فقام الظلُّ
وضوّعَ بالنارِ الطُرقاتِ،
وحرّقَ بالصّمتِ الضوضاء.
والأرضُ هي اللوحةُ والّلونُ،
وموسيقى الغيمِ،
ورقصةُ مذبوحٍ ينزفُ ألْسِنةً حَمراءَ،
وأغنيةٌ ونشيدٌ،
وعروقٌ من ساحلِ يافا،
وربيعٌ من أطيارِ البَرقِ،
وكوفيّةُ نجمٍ،
وصغارٌ بحقائبِهم يمشونَ إلى الصُبْحِ
على خطّ السكّين،
وأمٌّ لا تَنْدِبُ..
بل يأخذُها خَيطُ حريرٍ يَصَّاعَدُ
في نَسغِ الشجرِ العالي،
والدّمعُ حَنينٌ يقتلُها
في الليل
لِتصحوَ في الفجرِ الخَنْساء.
وما للطفلِ وهذا العَنَتِ المُرّ
وقد أطبقَ رُهبانُ العتمةِ أحزمةَ القَيدِ
على كَتفيهِ..
وخلّوهُ بعيداً عن سَوْسَنِه!
يا قمرَ الّلاجئِ لا تغرُبَ
حتى يصلَ الطفلُ إلى الشاطئِ
والمنديلُ على الحِنّاء،
ويا شمسَ الزهرةِ، والليمونُ غريبٌ
في تُرْبَتهِ،
عُودي للبنتِ السّمراءِ..
وحُطّي خيطينِ من الفضّةِ فوقَ الخدّينِ
لنذكرَ أيامَ الغُرباء.
في يومِ الأرضِ
يعود النّايُ إلى الأسوارِ،
وتبلغُ حيفا حدَّ الكَشْفِ،
ويرجعُ فينا جبلُ النار،
وغزّةُ يعرفها الشهداء.
ويومَ الأرضِ
ستحملُ زينبُ سَيفَ الطَّفِّ
ويبقى السّبطُ على الأكتافِ
وتفرحُ فاطمةُ الزّهراء.
ويومَ الأرضِ تجيءُ النخلةُ والعذراء،
ويأتي الطفلُ ليرفضَ جُلْجُلةَ الصّلبان،
ويكسرَ مِطرقةَ الطُغيان،
ويجعلَ دربَ الألمِ المُرّ
مساربَ للحبقِ الريّان.
الهالةُ من زيتونِ القُدسِ
وتاجُ نُبوّتهِ بيسان،
سيقطرُ ضُوءاً فوق النّاسِ،
ويسطعُ كالجُرحِ الريحان،
ويشرقُ من سخنين الأرضِ
إلى عرّابةَ في الأرجاء.
(2)
وفي يومِ الأرضِ ينامُ البسطاءُ
على وعدٍ لم يبلغْ حَدّ العودةِ،
ويسيرون على مَهَلٍ للجنّةِ،
ويحاولُ أصغرُهم أنْ يرجعَ
للبلدِ المقتولِ
ويقضي ثانية،
لكنّ صلاةَ النّصرِ تُطمئنُ
مَن ماتَ على المِتْراسِ..
-وتكذبُ ألسنةُ الخُطباء-
وفي يومِ الأرضِ
تنام الأرضُ على حُلمٍ يصحو،
ليكونَ نُقوشاً فوقَ القلبِ،
ووَشْماً فوقَ لهيبِ الغَارِ،
كتاباً يُقْرَأُ في الصلواتِ،
وعُرْساً في ساحاتِ الدارِ،
وَوَحْياً ينطقُ بالأسماء.
في يومِ الأرض
يقوم المَيْتُ من التابوتِ
ويتلو فاتحةَ الأحياء.
(3)
ويومَ الأرضِ
تعودُ لنا الأرضُ،
من الرّأسِ إلى أمّ الرّشراشِ،
ومن ساحلِها للبحرِ الميّتِ،
أعني البحرَ الحيّ،
-فقد أعطيناهُ دماً حُرّاً يخفقُ
في أضلاع الماء-
تعودُ لنا الأرضُ فلسطينُ،
ولا شيء سواها،
الآنَ ويومَ غدٍ والأمس
وقبلَ الطُوفانِ وبعدَ ملايينِ الأزمانِ،
وليس لها إلّا مَن ذوّبَ مهجتَه الصوفيّةَ
فوق شقائِقها النُّعمان،
ومَنْ وزّعهُ السّجّانُ
على عَدَمِ العَقْرَبِ،
أو مَنْ يحملُ كُوشان الدّارِ
ومِفتاحَ العودةِ،
ويَدفُّ إليها في الأنحاء.
في يومِ الأرضِ تعود الأرضُ
لتعلنَ خاتمةَ الأشياء