د.سميح مسعود
تحتفل الجزائر منذ الخامس من شهر تموز 2013 بخمسينية الاستقلال، تحيي على امتداد أيام طويلة ذكرى مرور نصف قرن على انتصار الثورة واسترداد الحقوق الوطنية. إنها ذكرى أهم صفحة من صفحات التاريخ الجزائري، سطرها مليون ونصف المليون شهيد، ضحّوا بأرواحهم من أجل إعادة الاعتبار إلى الذات، وتحرير البلاد بعد احتلال دام 132 عاماً.
تتجلى مظاهر الاحتفال بهذه المناسبة التي تحييها الجزائر، بعقد اللقاءات والندوات والنشاطات الادبية والثقافية، وإقامة الفعاليات الفنية في مجالاتها المختلفة، وكذلك دعوة الوفود الخارجية للاطلاع على إنجازات الجزائر التي تحققت بعد نيل الحرية والاستقلال.
أتيح لي زيارة الجزائر بمناسبة هذه الاحتفالات، توجهتُ ذات صباح ربيعي من شهر آذار إلى الجزائر برفقة صديقين عزيزين؛ الكاتب والتشكيلي حسين نشوان، والقاص جعفر العقيلي.. استُقبلنا بحفاوة في مدن باتنة وخنشلة وقسنطينة، قضينا في هذه المدن سبعة أيام حفلت بلقاءات كثيرة، كان أولها لقاء مع طلبة وأساتذة كلية الآداب في جامعة الحاج لخضر في باتنة، أعقبه لقاءات أخرى نظمتها جمعية شروق الثقافية، مع صحفيّي ولاية باتنة وطلبة الاعلام والاتصال هناك، ولقاءات في ولاية خنشلة، تفرع عنها قراءات نثرية وشعرية وتقديم محاضرات حول المقروئية والقضايا الإبداعية في الدول العربية، وتوقيع مجموعات قصصية وشعرية.
تقع مدينة باتنة في قلب جبال الأوراس، إنها عاصمته ومهد الثورة الجزائرية، تحتفظ بذكرى خاصة للشهيد مصطفى بن بلعيد أحد رموز الثورة، أقامت له تمثالاً كبيراً في وسط ساحة كبرى، يَظهر على قاعدته بحروف بارزة لقبه المعروف «أبو الثورة»، وهو فعلاً من الآباء التاريخيين للثورة، فقد أُسندت إليه بالإجماع رئاسة اللقاء التاريخي لمجموعة «ال 22»، الذي حسم الموقف لصالح تفجير الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، وعُين على رأس منطقة الأوراس، وكان أحد أعضاء «لجنة الستة»، وخاض معارك ضارية ضد القوات الفرنسية قبل استشهاده العام 1956.
تقع مدينة خنشلة في منطقة الأوراس أيضاً، وهي تُعَدّ المعقل الأول للثورة الجزائرية، انطلقت منها أول رصاصة ضد المحتل الفرنسي، وعلى مقربة منها يوجد نصب تذكاري لانطلاق الرصاصة الأولى، كُتب عليه بحروف بارزة أسماء الشهداء والمجاهدين من القادة مفجري ثورة التحرير بالمنطقة التاريخية الأولى في الأوراس، على رأسهم الشهيد الرمز «عباس لغرور» الذي تحمل جامعة في خنشلة اسمه، وهو من الرعيل الأول الذين ساهموا في التحضير للثورة في منطقة الأوراس، ويُشهد له بخوض معارك ضارية على رأس بعض أفواج جيش التحرير الوطني ألحقت الهزيمة بالعدو، وذلك قبل استشهاده في العام 1957.
كانت اللقاءات بالمثقفين الجزائرين في باتنة وخنشلة مسرّة حقيقية بكل المقاييس، استمتعنا بالتعرف على الشرق الجزائري، بفضل حيوية أهله وطيبتهم وكرمهم وودهم. سعادة اللقاء بوجوههم الباسمة المتفتحة لا توصف، استمتعنا ثلاثتنا بتفاصيل لقاءات كثيرة، خصوصاً في خمسينية النصر التي أقيمت بطابع خاص وأخاذ،.كان مضيفُنا الشاعر د.طارق ثابت، رئيسُ جمعية شروق الثقافية، ودوداً دائم النشاط كثير الأنس في أحاديثه، كان يبذل ما في وسعه لتعريفنا بكل من حولنا خلال تجوالنا.
مثله في اللطف، صبيحة طاهرات مديرة الثقافة في ولاية خنشلة، ومحمد النميلي مدير دار الثقافة في الولاية، ود.عبد الله العشي أستاذ الأدب العربي في جامعة الحاج لخضر، والشاعر معمر بن راحلة، وسكينة بن صديق بدير، والفنان الصوفي زين الدين بن عبد الله، وآخرون غيرهم، حملت أحاديثهم من كلمات الودّ ما يجعلني أذكرها في هذا المقام بامتنان.
كانت برامج اللقاءات معهم ومع غيرهم حافلة بالأحاديث في جو من الخشوع، عن الثورة ومناقب الشهداء، يكررون أسماء شهدائهم باعتزاز، ويؤكدون أن ذكراهم لا تمحى ولا تغشاها الظلال. تحدثوا بإطناب عن مجموعة ال 22 التي خططت للثورة، وعن مكان انطلاق الشرارة الأولى للثورة، وعن محطات مهمة في تاريخ الشعب الجزائري، بدءاً من مجازر 8 أيار 1954، وتنكر فرنسا لوعودها، إلى التخطيط للثورة ثم اندلاعها واستمرارها طيلة سبع سنوات، وصولاً إلى هزيمة فرنسا ونيل الحرية والاستقلال.
تواصلت البرامج الثقافية بحلقات متتابعة، طالت وتشعبت مواضيعها، بعضها في إطار الصالون الثالث للكتاب بخنشلة الذي حمل شعار «القراءة منهاج الحياة»، حاملاً كل جديد في مجال الثقافة والمعرفة، وقد حضر حفل افتتاحه عدد كبير من الناشرين هناك، وتم فيه تكريم مرغريت كربونار، وهي سيدة في الثمانين من عمرها، زوجة صديق الثورة الجزائرية الفرنسي –الراحل- جان كربونار، وهي معروفة للشعب الجزائري كله، قَدّمت للمعرض كتاب زوجها الموسوم «لننهض معاً من جديد» بنسخته العربية، الذي يضم سيرته الذاتية وقصة نضاله إلى جانب الجزائريين في فترة الاستعمار و ي مجال البناء بعد الاستقلال.
أهدتني السيدة مرغريت نسخة من كتاب زوجها، كتبتْ كلمة إهداء معبّرة مفادها: «هذا الكتاب يثبت أننا معاً نستطيع أن ننهض.. أتمنى لفلسطين أن تنهض». كتبتها بالفرنسية وترجمتها لي مترجمة الكتاب السيدة سكينة بن صديق بدير.
وسرعان ما وجدتُني أقلّب صفحات الكتاب صفحة تلو أخرى بشغف كبير، قرأته خلال فترة وجيزة، وهالني ما فيه من معلومات على جانب كبير من الأهمية، يلاحَظ منها عمق إحساس جان كربونار بشقاء البشر وعذاباتهم وطموحاتهم وسعادتهم المسروقة. فقد أحس عن قرب بعمق معاناة الجزائريين، وتضامنَ مع مناضلي جبهة التحرير الجزائرية، فكان يؤوي في بيته بعض المجاهدين،و كان يرافقهم ويسهّل لهم سبل النجاة والإفلات من قبضة المحتل، ولقي في سبيلهم ما لقي من مراقبة البوليس الفرنسي له واعتقاله ومحاكمته، وكانت قمة التحدي لديه متمثلة في تسمية أبنائه الأربعة بأسماء عربية جزائرية: إبراهيم وسالم ومريم ونعيمة.
هذه المواقف النضالية، دفعت بعض أركان حكومة ديغول -ممن كانوا يعترفون بموضوعية أن حربهم ضد الثورة الجزائرية خاسرة– للاتصال بجان كربونار، وانتدابه ليكون حلقة وصل بين الحكومة الفرنسية وقيادة الثورة الجزائرية، وقد قام بزيارات سرية إلى تونس والجزائر، مهدت لاتفاقيات إيفيان وانتصار الثورة.
وبعد نيل الاستقلال، لم تنتهِ علاقة هذا المناضل بالجزائر المحررة، بل ساهم بفعالية في معركة البناء، فقام بإنشاء ورشات للنجارة تعنى بتقطيع أشجار الأوراس التي أحرقتها قوات الاحتلال الفرنسية بالنابالم، وبإنتاج الخشب اللازم للبناء منها، كما قام بإنشاء ورشات تشجير لزراعة أشجار جديدة بدلاً من الأشجار المحروقة طالت الشرق الجزائري كله، مثل أشجار الأرز والصنوبر الحلبي والكافور، إضافة إلى شجر الزيتون والتفاح واللوز والتين، وقد تلقى مساعدات مالية لتنفيذ مشروعه من كنيسته في فرنسا وبعض الكنائس الأوروبية، ومن البرنامج الغذائي العالمي، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. وبلغ عدد العاملين معه في مشروعه الكبير نحو ثلاثين ألف عامل، وتمكن خلال إحدى عشرة سنة من تشجير مئة مليون شجرة على اختلاف أنواعها في جبال الأوراس.
تخليداً لذكرى هذا المناضل الكبير، نظمت دار الثقافة في خنشلة رحلة إلى منطقة «بو حمامة» في قلب الأوراس بين خنشلة وأريس وباتنة، لزيارة المنجرة التي بدأ بها جان كربونار مشروعه بعد استقلال الجزائر.. استقل الضيوف حافلة خاصة اتجهوا بها إلى أعالي الأوراس، ومن حسن حظي أنني جلست في الذهاب والإياب إلى جانب السيدة مرغريت كربونار، التي حدثتني أثناء الرحلة -باللغة الإنجليزية- عن الأشجار التي ساهم زوجها بزراعتها في كل مكان على اتساع المدى، خضرتها الزاهية تتعاقب في وفرة وبلا نهاية على امتداد جبال الأوراس، تحدّثتْ عنها كأنها تحمل صورتها في ذاكرتها لأعوام طويلة دون توقف أو انقطاع.
لزمَت الصمتَ في لحظة، لم تقل شيئاً… اقتربتْ في هدوء من نافذة الحافلة، أمسكَت يدها اليمنى بيسراها، وأخذت تنظر إلى ما بدا لها من جبل «شيليا»، أعلى قمم جبال الأوراس، شعرتُ أنها تخرج عن محيط نفسها إلى أجواء مشحونة بالإثارة، كا لو كانت تريد رسم كل شجرة من أشجار الأوراس في صفحات الزمن اللانهائي.
عندما وصلت الحافلة موقع المنجرة التي ما تزال تعمل حتى الآن، كان سكان قرية «بو حمامة» باستقبال السيدة مرغريت، استُقبلت كملكة متوَّجة من قِبَل عدد كبير من العمال الذين عملوا مع زوجها ذات يوم وهم في مقتبل العمر.. تحدثتْ معهم في ألفة عائلية، وتحدثوا عن ذكرياتهم مع زوجها، وعن ديناميته الخرافية ومواقفه المتماهية مع تطلعات الشعب الجزائري الوطنية..
أدركتُ من الكلمات التي كانت تجري على ألسنتهم عن جان كربونار، أن الأعمال الإنسانية لا تُنسى، بل تبقى محفورة في ثنايا الذاكرة الجمعية، تندفع وتنساب مع تتابع الأجيال، تبقى هنا وهناك وفي كل مكان.
بعد تلك الزيارة، نُظمت زيارات لمواقع أثرية، تم فيها التنقل من موقع تاريخي إلى آخر، الآثار فيها تتحدث عن أزمنة مختلفة، تمزج بين القديم والحديث، ومنها ما يشغل مساحة واسعة من ذاكرة الثورة والثوار، ومسيرة بناء البلاد بعد تحقيق النصر ونيل الحرية والاستقلال، تستنبت أحاسيس وطنية غير قابلة للتغيير والتبديل.
أثار اهتمامي من المواقع التاريخية القديمة: مدينة تيمقاد الرومانية، وهي مدينة الرومان الرئيسة في القارة الإفريقية في عهد تراجان، وضريح إيمدغاسن الذي شُيد العام 300 قبل الميلاد، ويعدّ أقدم نصب للدولة النوميدية في الجزائر، وحمّام الصالحين الذي يستمد مياهه من نبع درجة حرارته 76 درجة مئوية، وكذلك موقع وتمثال الملكة ديهيا، المشهورة بلقب «الكاهنة»، وهي قائدة عسكرية وملكة أمازيغية حكمت شمال إفريقيا، كانت مملكتها تشكل جزءا من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا وكانت خنشلة عاصمة مملكتها، وقد هزمها حسان بن النعمان الغساني في منطقة الأوراس في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ومدحها المؤرخون، ووصفها الثعالبي ب «المرأة النادرة»، وذكرها ابن خلدون في كتاب «العبر» بقوله: «ديهيا فارسة الأمازيغ التي لم يأتِ بمثلها أي زمان،كانت تركب حصاناً وتسعى بين قومها من الأوراس حتى طرابلس تحمل السلاح لتدافع عنأارض أجدادها».
وفي خضم تلك الزيارات، دُعيت مع رفيقَيّ حسين نشوان وجعفر العقيلي إلى زيارة مدينة قسنطينة، وهي عاصمة الشرق الجزائري، تتألق عمرانياً في جزئها القديم فوق صخرة غرانيت ضخمة بما يجعل من منظرها نادراً يجلّ عن الوصف، وهذه الخصوصية الجغرافية من حيث التكوين والتركيب الصخري، جعلت العبور بين أطرافها يتم عبر جسور معلّقة منذ أقدم العصور، ويبلغ عددها في الوقت الحاضر سبعة جسور شديدة الحضور بأشكالها البديعة وضخامة أقواسها الحجرية، يشق وادي الرمال طريقه من تحتها عبر المدينة، ومن أهمها جسر «سيدي الراشد»، يحمله 27 قوساً ويطلق عليه أهل المدينة اسم «قنطرة الحبال»، وهو أعلى –وأضخم- جسر حجري في العالم.
استحضر لنا مضيفنا زين الدين بن عبد الله مدينته بحمولتها التاريخية والحضارية، مقترنةً بغلائل صوفية تراثية بمعناها الواسع، بصفته يمارس وظيفة «القصّاد» في الطريقة العيساوية الصوفية لمدينة قسنطينة، ويرأس جمعية العقيقة للفن والثقافة لتطوير الفن الصوفي العيساوي، والمحافظة على التراث الأندلسي القسنطيني بجوانبه الروحية والفنية والفلسفية، وبما يتضمنه من مالوفٍ وزجل وغناء صوفي.
أحاديث مضيفنا عن قسنطينة كانت آهلة بالشخوص والشعر والغناء الصوفي، وبرصيد مدينته الفني والثقافي الثري والغني والمتنوع في كل المجالات، وقد تمكنتُ بما سمعته منه التعرف على الحياة التراثية المتجددة لهذه المدينة العريقة.. إنها ليست مكان سكنى فحسب، بل هي جملة فضاءات متشابكة بامتدادات واسعة توقظ شهوة الحياة الثقافية فكراً وحضوراً.
إضافة إلى اكتشافي لهذه المدينة العريقة، تمكنت من الحصول على كتاب مهم للباحث د.عثمان السعدي بعنوان «معجم اللغة العربية للكلمات الأمازيغية»، والمؤلف مدافع شهير في الجزائر عن اللغة العربية، عَرّفني عليه قبل سنوات عديدة قريبه الصديق موسى الزمولي، وبعد قراءة كتابه وجدته يؤكد فيه أن البربرية/ الأمازيغية «لهجة منحدرة من اللغة العربية الأم منذ آلاف السنين»، ويشير في هذا الخصوص (وهو نفسه ينتمي إلى قبيلة النمامشة؛ أكبر قبيلة أمازيغية في الجزائر) إلى أن حوالي 90 في المئة من المعجم البربري هو من أصول عربية أو مستعرَبة، واعتمد على علم الفيلولوجيا لتحديد أكثر من عشرة آلاف كلمة أمازيغية هي في الأصل كلمات بربرية موجودة في أمهات معاجم اللغة العربية، مثل «لسان العرب» لابن منظور، و «أسرار البلاغة» للزمخشري، و «فقه اللغة» للثعالبي.
( الرأي الثقافي )