يد خشنة.. وبرتقالات



محمد العامري *

 لم يفتني مشهد الغور في شتائه وربيعه، لم تفتني تلك الأيادي الخشنة التي قطفت البرتقالي من سجادة الشجرة..
كنت وما أزال مرتبطاً بغوري الحالم بناسه الذين آثروا صهده على نعومة المدن وتجلياتها الاستهلاكية.. المدن التي تبث كآباتها في صناديق البريد كما لو أننا وحيدون هنا.
أعترف أنني أهرب إلى هناك، إلى حيث المدى الأخضر والغيوم التي تهبط بنعومة على كتف الجبل.
كانت جمعة غرائبية لم أُطِقها ولم أُطِق كسل الساعة فيها، فهرهت أنا وصديقي القاص خليل قنديل إلى بيت أمي، هناك بجوار النهر المقدس حيث رعونة الزهور وتفجرات الألوان التي تداهم البصر بإضاءة جناتية، كنت أراقب صديقي، أراقب اندهاشاته من جغرافيا مليئة بالألوان والبساطة، حيث الأرض تضحك من شدة دغدغة العصافير لإبطها.
كانت مقاربات غير عادلة بين عمّان والغور حين قال لي: «لِمَ أنت في عمّان؟ فكل تفاصيل كتاباتك ولوحاتك في جيب الغور». لم أشأ أن أرد عليه، لكنني أدرك أنني ما أزال هناك في غوري المبجل الذي أطعمني من أسماكه، وأرواني من برتقاله وليمونه، وطهّرني بنهره الذي مسّد ظهر المسيح عليه السلام.
لم أذكر إلا تعاسات «شوبنهاور» الفيلسوف المتشائم، فلم يقنعني بتشاؤمه حين واجهتُ مرآة النهر التي تشرب أشكال البط الأسود، لم أتذكر إلا «بحيرة البجع» بموسيقاها الفذة ورقصاتها التي تشبه تلك «الكينا» حين يمر على منديلها الريح.
أثارني مشهد النساء وهن يرتّبن البرتقال في الصناديق البيضاء مستمتعاتٍ بشاي ضمّخه الليمون برائحةٍ لا يمكن القبض عليها سوى في أن تتذوقها.
ولم أتذكر أيّ مقارنات بين الفرنسي «سيوران» وأبي العلاء المعري، كل ذلك لا يعنيني أبداً في لحظة القبض على البرتقالي في صناديقه البيضاء كما لو أن عروساً ترقد تحت أخضر الشجرة.
كان يومُ المرأة هناك مع تلك النساء اللواتي يقطفن من روح الشجرة ثمرةَ الحب، يقطفن بحنان جَمّ تلك الثمار المقدسة لتذهب إلى نساء أخريات لم يعرفن رائحة الأرض بعد.
فعطر النساء الغوريات هو تلك الرائحة المختلطة بين نعناع الوادي وزهر الليمون، ورائحة الطين في مجرى الماء والكينا، وسحابة العشب في أعلى التلة ودوائر الخبّيزة، وملمس الثمرات وخشونة اليد، ولون الشاي وغروب الشمس، وليمونة فارعة وطائر يدنو من رقراق الماء..
ذلك هو اختلاط الراوئح لدى الغوريات اللواتي وُلدن من شجرٍ لا يعرف شوى الحب.
نعم؛ أغادر عمّان كلَّ جمعة لأجمع حواسي في باطن الشجرة، كي أغسل أدراني في نهري الذي شرب صورتي منذ الطفولة.
أذهب إلى هناك حيث تكتب ألوان الأرض تاريخاً من الالوان، وتحبّر نشيداً خفيّاً كنا نسمعه من الأجداد.
أرض لا تحتاج إلى خطابة..
أرض تحتاج إلى حب..
أرض تعرفنا، نأوي إليها في هزائمنا الشخصية لتعيد لنا الطيبةَ وتؤثث أرواحَنا بحنّائها.
تعيد لنا رائحة الخبز وطبيعة الحجر.
تلك الأيادي التي تفلح بالعشق لم تخذلنا يوماً سوى أنها عاتبة على الذين مروا بها ولم يسلّموا عليها.
لم تعتب سوى على الذين غادروها بلا استئذان..
فكانت الأكثرَ بهاءً بخشونة يد المرأة الغورية التي لم تنْسَ للحظةٍ تلك الأعشاب التي آوتها من خوف.
أعشاب يعرفها الغوريون فقط؛ الحميضا، واللوف، والسلاق، والدريهمة، والمرار، والبسباس، والعَوَرْوَر، والريحان والخردلّة والخنيصرة.
أعشاب تبدو غامضة، لكنها تعيش معنا في البيت..
أرض تدخل البيت كي لا تخرج، نعرف رائحتها وتعرف ملامحنا تماماً..
هي تلك العصائر في بطن الشجرة
تشخب من حليبها كي نشرب.



* شاعر وتشكيلي من الأردن
( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *