عرش الثقافة لا يغطّي فم الفضيحة


*علي السوداني

العنوان كبير ، لكنه لا يرتّق فتحة الشقّ . مقصدنا بالعنوان هو ” بغداد عاصمة الثقافة العربية ” إبتداءً ، سنقول ، إنِّ بغداد العباسية ، هي الإبنة الجميلة المتبغددة الحاضرة المشعة لبلاد ما بين النهرين . ألعراق أرض السواد ، فائق الخضرة . ألبلاد التي إسمها جمجمة العرب ، كما ساحت على لسان الفاروق . هنا ، وما حول هنا ، انولد الحرف الأول ، والقانون الأول ، والقصيدة الأولى ، والأغنية المنسوجة فوق نول معتق ، هي أول سلّم موسيقي معروف . في بغداد العباسية الآن – مثل البارحة – أدباء شعراء مبدعون مثقفون فنانون ، وما اشتغلت عليه الأيادي والعقول بباب الفنون والحروف الجميلة . قيل في منتصف القرن الفائت ، إنّ القاهرة تكتب ، وبيروت تطبع ، وبغداد تقرأ ، وفي هذا القول ، ثمة ظلم عظيم ، أو توزيع غير عادل لتلك الثلاثية المدهشة .

في هذا العام الذي يشيل فوق ظهره ، الرقم المنحوس المتعوس 2013 تمِّ اصطفاء بغداد وإجلاسها على عرش الثقافة العربية ، ومنذ تلك الساعة المختارة ، إنقسم المشتغلون بالثقافة والأدب – عراقيون وعرب وربما إفرنجة – فمنهم من فرح وزمّر وكبّر ، وقام على حيله ، وأنزل جنطته المتربة ، من فوق سطح خزنة الملابس ، ونكتها وحضّرها لرحلة قادمة في الطريق إلى بغداد ، وآخرون رأوا في الأمر ، دعاية وتحويل نظر وشبهة ، ودعوة الرعية لمراقبة شاشة الثقافة ، بديلاً ملحّاً عن شاشة السياسة ، وفي ذلك محاولة بائسة ، لتخمير الفضيحة وتقطيرها وتدريرها ، كي تشربها الناس ، فتسكر بحروفها المنمقة المزروقة ، فتنسى المصيبة ، وتنسى صانعها .
بغداد الآن ، مثل ليلى العليلة في العراق ، فلا طبيب يداوي ، ولا دواء يشافي ، ولا هواء يعافي .
سيقرأ الشعراء من بضاعتهم ، وسيقصّ القصاصون ما تيسر من طوال القصص ، ومن قصارها . ستسكر ثلة منهم ، وتغني وترقص على سلّم الوجع . سيأتي الحاكم بأمره ، وسيلصق مؤخرته في خاصرة كراسي الصف الأول ، وسيعاون الكاتبين ، في ملحمة تحميس الأيدي بالتصفيق ، ثم سيتفرّق الجمع ، وسينفضّ الربع ، وقبل ركوب المركوب العائد صوب الديار ، سيكون بمستطاع كل شاعر أديب ، أو متأدب ، أن ينصت بوضوح شديد ، إلى الحاضرة العباسية المغدورة ، تنوح وتتناوح ، لكن القصيدة ، طرشاء خرساء يابسة ، طعمها مثل طعم طين بفم .
ألعنوان كبير ، والشقّ أعظم ، والعنوانات المنافسة المشاكسة التي تطمع بعرش الثقافة ، كثرة كثيرة ، وإني ليحزنني يابغداد ، أن ينام اسمك حتى اللحظة ، في فراش تنام فيه معك ، مدن وأمصار ، توصيفها القائم ، هو الفساد والمرض والموت .
بغداد حبيبتي : كوني بخير .
__________
*(العباسية)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *