البلدة والسجادة وبينهما وجه


* إسراء عبد التواب

(ثقافات) 

أسكنت رأسها على زجاج العربة وبدأت رحلتها مع العودة. كان من عادتها فتح جزء بسيط من شباك العربة ليتسلل الهواء النقي لقلبها فيمحو أرق المدينة وضجيج التعاملات الدبلوماسية المنمقة.سرحت فى النخيل السامق الذى ظل يترامى على أطراف القرى الصغيرة كأنه حارسا للبلاد الواسعة .البلاد التي تغيرت كثيرا ولم تعد ببساطة الماضي الرتيب.لكنها كانت تفتح صدرها بقوة وهى تشم رائحة العجائز وهن يقتحمن سكونها بتعثرهن الدائم فى الركوب .شمت رائحة اللبن المتيبس فى ملابسهن السوداء الطويلة ورائحة الجبن القديم المطعم بالبرتقال المذذ .كن يحملن الرضع على صدورهن المتهدلة ومعهن لم تجلس زوجة الابن مطيعة . تجلس الأخيرة بغرور واضح وتظل العجوز رمزاً للحنين الغائب. رائحة البلدة تغيرت ومعها هي أيضا تغيرت وتبدلت كل الأماني، ولم تعد تبهجها قوالب الكراميل التى تعدها الأم وتغمرها بالعسل الأسمرالذى كانت تحبه .لماذا تغيرت كثيرا وكل ما حولها لم يتغير بهذا الجموح .ظل هذا السؤال الحائر يذكرها بكتاب “الطمانينة لفرناندوا بيسو” الشاعر الحالم الذى لم يعرف حتى الموت من يكون ؟؟.
تدفقت الأسئلة الحارة بقلبها واندفعت بقوة كغرف الوقود فى البواخر العملاقة.تقول لنفسها”من خرج لن يعود،ومن عاد لن يمكث فى مكانة طويلا” فالرقص بين المسافتين إيقاع مرهق .ومع الإيقاع تتبدل الملامح وبقايا الجسد ويعاد تكوينه .
جلست فوق سطح البيت العالي أطلت البيوت بارتفاع شاهق ولم تعد تتمدد باتجاه أفقي. ظلت البيوت تشق سماء البلدة وظلت الرؤية الممتدة صعبة المنال .الهمس الرخيم ابتلع أصوات البلدة فى ساعات الليل المتأخرة والقمر ببدره شق الظلام الدامس .صوت “عبد الباسط عبد الصمد” كان يخرج من غرفة أمها كلحن سماوي يعانق الأرواح التى لم تصل بعد لطمأنينة ما. تتأمل فى مناجاته فى التواشيح وأرقه حين يصرخ “يارب”; يفجر فى قلبها بحثا عن روح الله الهاربة منها وسط كوم من النفاق المترامي بتوحش على أطراف المدينة .فى البلدة فقط تندفع الأحبار فى يدها ويبدأ هاجس الوجود فى الانهمار .لماذا نحن هنا وهل نحن نعيش الحياة أم هى التى تعيشنا “
فكرت فى كتابة وصية للموت.عانقت يدها الكيبورد وكتبت بضع كلمات مختصرة على صفحة (وورد ) كان نصها”: أرجو دفنى بجانب أبى ” …ارتاح قلبها لهذه الوصية وفكرت فى طباعتها عند الصباح.كانت في حاجة للصلاة ، التي تركتها منذ زمن حين وقفت وهى تنظر لسقف غرفتها وكأنها تخاطب الرب قائلة :”لن أنافقك بعد اليوم أبدا”.
لأول مرة تشعرأن سجودها سيغير حقائق العالم من حولها.السجادة الخضراء كانت تناديها بقوة.توضأت ومع دفقات المياة الباردة فى ليلة شتوية دافئة كانت تشعرأن روحها تغتسل مع الوضوء وتخرج كل شوائب السنين .استقبلت أرقها المتراكم عبرالسنين واحتضنت وجوه الرجال الذين أحبتهم وتركتهم.بقي وجه واحد أحبته بصدق وتهور. احتل فضاء السجادة الخضراء وشعرت بكتفه (تطبطب) عليها كما كان يفعل عند كل وداع بينهما . خاطبت الرب باكية” إجمعنى به فى الجنة وتمنته زوجا لها هناك “.
بكت على السجادة بحرارة وكلما تدفقت دموعها كان وجهه يملأ السجادة.شعرت براحة وهى تصارح الله بوجعها الداخلى وعاهدته أنها لن تعشق غيره في الدنيا ولكنها لن تصبح راهبة، لا بل، ستنجب الكثير من الأطفال .احتواها الصمت بجناح كبير و رعشة هزت جسدها أثناء صلاتها. شعرت بالبرد ثم غمرها الدفء .نامت على السجادة وقالت بهدوء بينما السكينة تملأها: “آمنت ياربي بوجهك ” .
_____________
* كاتبة من مصر 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *