موسى إبراهيم أبو رياش
مزق إبراهيم عيسى في رواية “مولانا” كثيراً من الأقنعة، وأثار عاصفة من الأسئلة، وقذف القارئ المهتم في دوامة فكرية لن ينجو منها إلا القليل. ويسجل له جرأته في طرح موضوعات تعتبر من المحرمات أو المحظورات، التي يخشى حتى العلماء الاقتراب منها خوفاً وجبناً وربما عجزاً.
والرواية كما يبدو بصدد أن تتحول إلى مسلسل تلفزيوني، وإن عرضت كما هي، فستكون قنبلة فكرية، تصيب شظاياها كثيراً من المتكلسين والمتحجرين والمقلدين بلا بصر أو بصيرة.
رواية “مولانا” متشعبة وتتناول كثيراً من الموضوعات التي يصعب الإحاطة بها في مقالة واحدة، ولذا ستقتصر هذه المقالة على الإشكاليات ذات الطابع الإسلامي حول الحديث الشريف، والمعتزلة، والتشيع، وأهل الذمة، والإرهاب، وشيوخ الفضائيات. فقد استطاع إبراهيم عيسى توظيف الشيخ حاتم الشناوي لطرح الأسئلة الإشكالية التي تؤرق كثيراً من الشباب، ولا يجدون لها إجابات مقنعة، بل تشتتاً من شيخ إلى شيخ، ومن عالم إلى آخر، كأنهم من أديان مختلفة لا ديناً واحداً، والاجتهاد أو الاختلاف لا يبرر ذلك، ولكنه الهوى وتوظيف الدين لخدمة أهواء أهل السياسة وأربابها.
ففي الحديث الشريف ذكر المؤلف مجموعة من الأحاديث الواردة في صحيح البخاري، بأبوابها وأرقامها، حتى لا يترك حجة لمشكك، وهي على الرغم من صحة سندها إلا إن متنها يصادم العقل أو المنطق أو يسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللأسف فإن كثيراً من الشيوخ يسيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث البخاري بحجة صحة السند، ولا يمحصون المتن. يؤثرون البخاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمسموح أن نجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يجوز التجريح في رواية البخاري. فحديث البخاري لا يتطرق إليه الشك، وإن أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو صادم العقل والفطرة وخالف أحاديث أخرى بل وآيات أحياناً.
وقد آن الأوان أن يراجع الحديث النبوي من جديد، وفق معايير أكثر دقة وعلمية، في ضوء ما توافر من معلومات وبيانات وظروف أثرت على رواية الحديث وتوظيفه سياسياً، بل وانتحاله في كثير من الأحيان. خاصة وأن تدوين الحديث قد تأخر كثيراً، ولا شك أنه دخله دخن كثير.
كما تطرقت الرواية إلى موضوع المعتزلة والاعتزال، وخاصة تقديم العقل على النقل، حيث يكفرهم البعض، ويخرجهم من الملة. وأظن أن كثيرين من القراء سوف يرجعون إلى الكتب والمراجع للاستزادة عن المعتزلة وأفكارهم وتاريخهم، وهذا ما تهدف إليه الرواية أصلاً. خاصة وأن موضوع المعتزلة شبه مجهول عند العلماء ناهيك عن بقية المسلمين، على الرغم من أثرهم الكبير على مسيرة الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية.
إن العقل الذي يقدمه المعتزلة، هو هبة الخالق سبحانه، كرمنا به لنستخدمه لا لنركنه على الرف؛ اتباعاً أعمى لمن سبقنا، وهو أداة كل عاقل لتبيان الغث من السمين، والصواب من الخطأ، والإيمان من الكفر، فكيف نؤمن يقيناً دون إعمال عقل؟ وقد عاب رب العزة على من سبقنا بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف:23]، فكيف نقرأ هذه الآية الكريمة، ونكرر ذات الجريمة؟؟!!
أما موضوع التشيع والشيعة، فهو جرح كبير غائر، ولا يزيده غلاة الطرفين إلا اتساعاً وعمقاً. ومن السخف أن نظن أن الحملات المتبادلة بين الطرفين ستنهي الخلاف أو الصراع الطائفي الأسود. والأولى أن يتداعى العقلاء لفتح الجرح وتنظيفه جيداً، ومن ثم البناء على ما يجمع لا ما يفرق، وما يوحد لا ما يشتت. لأن ما يحدث هو جر للمسلمين نحو الهاوية، وتجييش للدهماء، لا يخدم إلا أعداء الأمة، بل إن ما يحدث هو تنفيذ لمخططاتهم بإيدٍ مسلمة. وقد تناولت الرواية هذا الأمر بموضوعية ودعوة إلى البحث، وعدم اللجوء إلى التكفير المجاني.
وتناولت الرواية مفهوم أهل الذمة، حيث يريد البعض أن يجعله حقيقة واقعة في واقع غير إسلامي، وينسون أن أحكام أهل الذمة لا تطبق إلا في دولة إسلامية حقيقية. وقد صدم الشيخ حاتم الشناوي وفد الشيوخ لعزاء ضحايا تفجير الكنيسة، عندما نبههم إلى خطورة التركيز أو الإشارة إلى مصطلح أهل الذمة لما يثيره من حساسيات واستفزازات، في وقت هو أحوج فيه إلى لم الشمل وتوحيد الكلمة، والتأكيد على قيم المواطنة.
الشيخ حاتم الشناوي الملقب بمولانا في الرواية، هو الشخصية الرئيسة فيها، وهو نموذج لداعية مرن ومرح يراعي الظروف ومتطلبات العصر. وعلى الرغم من علمه الغزير، فهو لا يقدم إلا ما يريده المشاهدون وما يحبون أن يسمعوه، أي أنه يبقى على السطح لا يتجاوزه إلى الأعماق، لأن الأعماق مهلكة، ولا تعجب أي طرف، لا الحكومة ولا التجار المعلنين، ولا أصحاب الفضائيات، ولا المشاهدين، فالإنسان العادي لا يحب أن يسمع إلا ما يدغدغ مشاعره، ويمسح دموعه، ويربت على أكتافه. لا يبحث عن الحقيقة بقدر ما يبحث عن خداع النفس، والنأي عن أي مسؤولية أو تبعات ترهقه أو تتعبه.
ومن هنا كان الشيخ حاتم موزعاً بين علم سطحي مكرور لا يخرج عن المألوف، وبين علم يرهقه ويعذبه، ولا يبوح به إلا في الجلسات الخاصة، تجنباً لمعارك وصراعات مع كل الجهات، وأولها مع الشيوخ التقليديين الذين يعطلون عقولهم، ويتبعون من سبقهم دون وعي أو بصيرة. ومن خلال الشيخ حاتم نتعرف على طائفة من هؤلاء الذين لا يخدمون الإسلام بقدر ما يخدمون أنفسهم ويملؤون جيبوبهم وأرصدتهم. لقد تحول كثير من شيوخ الفضائيات من دعاة إلى ممثلين، ومن علماء إلى تجار، ومن شيوخ إلى شياطين، وهم يحسبون أنهم محسنون.
وتكشف لنا الرواية أمراً في غاية الخطورة أن شيوخ الفضائيات، لا يقدمون الإسلام كما أنزل، وإنما يعرضونه حسب أهواء السلطة وتوجيهاتها، فإن خرجوا عن الخط، مُنعوا من الظهور، ولُفِقت لهم التهم، وشُوِهت سمعتهم، وعُدِوا خارجين على الدولة وقوانينها.
الشيخ حاتم وغيره من شيوخ الفضائيات يتكسبون بالدين، ويتخذونه وسيلة للرزق وتكديس الأموال، ولا يحسبون لله حساباً، بقدر ما يحسبون للسلطة أو التجار المعلنين، ولا يتورعون عن إيجاد المبررات لخداع أنفسهم ومشاهديهم.
الأمر الذي أرى أن الرواية لم توفق فيه، هو ربط تدمير الكنائس بالقاعدة، مع إنكاري لكثير من ممارسات القاعدة. فلا أظن أن تدمير الكنائس وترويع الآمنين من أعمال القاعدة أو أي مسلم من المسلمين مهما كان متطرفاً. نعم قد يقدم مسلم على ذلك جهلاً أو بتأثير شيخ أحمق جاهل، ولكنه بالضرورة لا يصدر عن مسلم عاقل مهما كان متطرفاً في فكره. وربط بعض التفجيرات بالقاعدة خصوصاً أو بالإسلام عموماً هو عمل أجهزة معادية للإسلام بهدف الإساءة إليه وتشويه صورته لدى الآخرين.
وبعد، … فقد قدم إبراهيم عيسى رؤيته الفكرية على امتداد 554 صفحة، في قالب روائي مشوق جميل، دون أن يشعر القارئ بملل، على الرغم من الكم الكبير من المعلومات والمعارف والتوثيق والحوار الفكري، الذي جاء طبيعياً سلساً ضمن سرد روائي عفوي متقن. بلغة وظيفية بسيطة مباشرة، تنسجم مع موضوع الرواية وأحداثها. وهي من الروايات القليلة وربما تكون الأولى التي تناولت شيوخ الفضائيات، وما يحدث خلف الكواليس. وهي تستحق أن تكون ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر لعام 2013، وتنافس على الجائزة بقوة.