الجاحظ في البرلمان


* قيسامي الحسين

(ثقافات) 

كنت من بين الصحفيين المحظوظين لتغطية جلسة من الجلسات البرلمانية بمجلس النواب. كانت الشمس تسلط أشعتها على العاصمة في يوم هادئ، والإرهاق يجعلني عاجزا عن الحركة من جراء السفر الطويل. وبينما كنت أتوجه نحوى المقهى المقابل لقبة البرلمان، إذا برجل فوق بعير، قصير القامة، صغير الرأس، جاحظ العينين، أسمر اللون، كأنه منحدر من أصل زنجي، مشرق الجبين تضفي عليه لحيته البيضاء وقارا، مرتديا طيلسانا ومسلحا بسيف، نادى علي وسألني عن مكان وجود مجلس الشورى. اندهشت لذلك المشهد الذي أعاد بي الذاكرة لعصور مضت، ووضحت له أن مجلس الشورى يدعى عندنا مجلس النواب الذي يؤلف مع مجلس الأعيان مجلس الأمة. لقد لمست في الرجل حزنا دفينا وهما مستحكما يتطاير من عينيه و من جوارحه كأنه جاء ليصفي حسابا مع جهة معينة. نزل الرجل من البعير وربطه بشجرة النخيل في قلب الشارع. ووقف قليلا ورفع عينيه، فإذا الأرض كأنما انشقت عنه وهو يرعى مجموعة من الأشخاص يدورون حوله في حيرة. جررت خطاي متمهلا، وعلى شفتي ابتسامة سقيمة، واقنعته بأن يضع البعير في المرأب. و بعد لحظات شعرت بدبيب خطوات عنيفة على مقربة منا، و تراقى إلى سمعي صوت شرطي وهو يفاجئنا بسؤاله:” التعريف من فضلكم؟”. بعدما قدمت نفسي للشرطي، رفع الضيف صوته على رجل الأمن قائلا: ” كيف أعرف نفسي و أنا الذي له علاقة ببلاط الدولة العباسية و كبار الوزراء و أعيان الدولة كمحمد بن عبد الملك بن الزيات، وزير الخليفة المعتصم ثم الخليفة الواثق”، فاستسمح الشرطي بعد إعطاء التحية للرجل معتقدا أن المتحدث إليه عنده معارف في الدولة. جلسنا بعد ذلك بالمقهى المقابل للبرلمان لأستطلع الأمر، وكنت متيقنا أن أمر صاحبنا له علاقة بنائب من نواب الأمة… ربما هذا الأخير قد قصر في عمله ولم يف بوعوده الانتخابية. كانت الصدمة كبيرة عندما قدم الرجل نفسه بأنه الجاحظ، إذ لم أكن أتوقع ولو لحظة في حياتي أن أقابل في يوم من الأيام هرما من أهرام الأدب العباسي العربي. كنت خائفا أن يتطاير هذا الخبر إلى المخابرات ويتهمونني بالمؤامرة مع المجتمع العباسي. كان الجاحظ يتكلم معي بلغة تجمع بين قوة الصنعة وجزالة الأسلوب وطلاقته… واسع الثقافة، عميق الفكرة، خطيب بليغ يتقن الفصاحة ويهوى البيان. كان سعيدا بتواجده في القرن 21 قادما من القرون الوسطى ليحضر جلسة بالبرلمان. بينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، مر أمامنا شبان حاملين أعلاما خضراء ويهتفون باسم الرجاء ” ديما، ديما رجاء”، وانبهر الجاحظ لذلك المشهد وسألني عن سر هؤلاء الشبان، بعدما سرحت على شفتيه ابتسامة عريضة لم يملك إخفاءها. فأجبته قائلا: إن الأمر يتعلق بجماهير الرجاء، إذ سينازل فريق الشياطين الخضر فريق الفتح برسم نهاية كأس العرش. فأخد الجاحظ سيفه وهتف ” الله أكبر، ينصر الإسلام والمسلمون، وبارك الله الفتح الاسلامي” معتقدا أنه يتعلق الأمر بحرب بين الكفار والمسلمين، وأن الجيوش الغازية قد اكتسحت العاصمة، وأن القتال يحمى وطيسه في شوارعها. وبعد ذلك شققنا طريقنا في اتجاه قبة البرلمان، وبدأ الجاحظ يرمي ببصره يمنة و يسرة مستمتعا بالناس كأنه يتجول في سوق بغداد. كان يسير مطرق الرأس، ثقيل المشي وتوقف عند كشك وبدأ يتصفح الكتب وتفاجأ أمام الأحرف الصغيرة، و الأسطر الكثيرة، بعدما فسرت له أنه يرجع الفضل في ذلك لاختراع الورق والطباعة، وكانت سعادته غامرة حينما علم أن آلة الطباعة قادرة على طبع الآلاف من النسخ في وقت وجيز. وبينما أتصفح بعض الكتب، أثار انتباهي كتاب يحمل عنوانا ” النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ”، وابتسمت قليلا وأنا أقدم له ذلك الكتاب قائلا: هذا كتاب عنك، واندهش مؤكدا إلى أي حد هو معروف في وقتنا الحاضر، وشرحت له أن عددا من الكتب وبحوث قد انجزت حوله. مررنا بعد ذلك أمام البنك المركزي، ووقف الجاحظ متأملا في البناية مستفسرا عن سبب استبدال اسم بيت المال بالبنك المركزي. ولما بلغنا الباب الخارجي للبرلمان، استرعى انتباه الجاحظ مجموعة من الشباب حاملين لافتة مكتوب عليها “عليك الأمان، عليك الأمان… لا حكومة لا برلمان”، و مثل الجاحظ أمام الباب يتفرس في المشهد، وعلى الفور أقبل علي قائلا: ” ماذا يفعل هؤلاء الشباب أمام البرلمان؟” فأجبت قائلا بأنهم دكاترة معطلون يطالبون بحقهم في الشغل. فثار الجاحظ واستشاط غضبا موجها لطمة إهانة للحكومة والمسؤولين عن هذه المهزلة. دخلنا إلى قبة البرلمان، وبعد افتتاح الجلسة من طرف رئيس مجلس النواب، تدخل وزير المالية للدفاع عن مشروع الميزانية. لم يفهم الجاحظ شيئا عن المصطلحات الحديثة المستعملة كضريبة النظافة… و وجه اللوم للحكومة في ما يخص ثقل هذه الضرائب على المواطن، وأضاف أنه رغم الظروف الجيدة في المجتمع العباسي، فالضرائب كانت قليلة واقتصرت على ضريبة الجزية، ضريبة الخراج، ضريبة المكوس وضريبة المواريث. وبعد مداخلة وزير المالية، جاء دور تدخلات النواب المحترمين. فتدخل أحد البرلمانيين، موجها سؤالا مليئا بالأخطاء اللغوية، وأصبح الجاحظ في حيرة للمستوى الهزيل لنواب الأمة، وأكدت له أن حال نوابنا هو حتمية تاريخية، وأغلبيتهم أميون يتطاولون على تدبير الشأن العام. فثار الجاحظ مرة أخرى وتعجب للمفارقة العجيبة والغريبة: دكاترة معطلون خارج التماس، ومسؤولون أميون يتطفلون على شؤون الأمة. وبعد خروجنا من قبة البرلمان، عاهدني الجاحظ بأنه سوف يكتب الجزء الثاني من كتاب “البخلاء” حول الحكومة ونواب الأمة. توجهنا بعد ذلك في اتجاه المرأب لنتوادع ولكن الجاحظ اندهش لحالة البعير وهو مقيد الأرجل بحداء دنفر المخزني. إن صورة البعير القاتمة الحزينة تتراءى للجاحظ مع عشرات الصور المؤلمة التي شاهدها في بلدنا العزيز. وبعد دقائق أتت شاحنة “الديباناج ” لجر البعير إلى المحجز البلدي بسبب عدم تأدية الجاحظ واجبات الحراسة… حاولت التدخل لإجاد حل لهذا الحادث، لكن رن المنبه واستيقظت من النوم مرعوبا… يا له من كابوس حلم مزعج.
____________________
* كاتب من المغرب 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *