أمجد ناصر فـي روايته ” حيث لا تسقط الأمطار ”


أ.د. عبد الرضــا عليّ *

( ثقافات )


كان جابر عصفور محقّاً حينَ رأى أنّ هذا الزمن هو زمن الرواية⁽¹⁾ بامتياز، فعلى الرغمِ من آلافِ القصائد (إن لم نقل آلاف المجموعات الشعريّة) التي تُنشر تباعاً في الدوريّات الورقيّة، أو المواقع الرقميّة، فإنّ قلّةً قليلةً جدّاً منها تستحق القراءة، وتأمل ما فيها من جوهريّ.
أمّا الكثرةُ الكاثرةُ (يقيناً) فإنّها تؤشّرُ إلى أنَّ صانعيها يقلّدون بعضهم بعضاً،ويقدمون نماذج متناسلة لا تصلح لهذا الزمن، وإن حاولَ صانعوها جعلَها تتّشحُ بالغموضِ والإبهام، لإيهامِ المتلقّي أنّ ما يكتبونه يصبّ ُ في دائرة الفنِّ الذي لا يُعطي نفسه للقارئ بسهولةٍ ويسر.
أمّا الرواية ُالفنيّة اليوم فإنّ كتّابها المجيدين يعمدون إلى جعلِ لغتِها حمّالة أوجهٍ في التأويلِ، ويسعون إلى ربطِها بالحداثةِ من حيثُ كونُها موقفاً فكريّاً من الحياة والكون قبلَ أن تكونَ رغبةً شكليّةً في المغايرة، مع أنّ الشكلَ لا يقلّ ُ عن المضمونِ في الأداءِ والتوصيل بوصفهما وجهينِ لعملةٍ واحدة.
لسنا هنا في معرضِ ذمِّ الشعرِ لحسابِ مدحِ السردِ، فالجنسانِ مختلفانِ، لكنّنا في معرضِ تبيان أنّ الروايةَ الفنيّة اليوم هي ابنة الصعوبة وإن اشترك صانعُها مع صانعِ الشعرِ في جناحي التحليق، ونعني بهما: الفطرة والاكتساب. إلّا أنَّ الروايةَ تميلُ إلى السببيّة في سيرِ الأحداثِ وتطوّرها، وهو ما تخلو منه الكثير ممّا يطلق عليها اليوم جزافاً بـالقصائد التي لا تملكُ ماء الشعرِ، ولا كيمياءه، فضلاً عن أنّ معظم ما يرصفُ اليومَ من كلامٍ مؤسطر، هو خلوٌ من التحليل النفسيّ الذي تُعنى به الرواية، إلى جانبٍ أنّ العملَ السرديَّ الناجحَ يميلُ إلى التماسكِ في البناء،وهو ما لا قدرةَ للكثيرين من النظّامينَ عليهِ. وهذا التماسكُ يجعلُ المتلقّي منشدّاً إلى عوالمِها رغبةً في الوصولِ إلى ما تقدّمُهُ من نقدٍ لمظاهرِ الحياةِ حينَ يخطّط ُ صانعُها لإظهار ما ينبغي رفضه، أو تجاوزه. وهذا ما قد تجلّى واضحاً في رواية أمجد ناصر الموسومة بـ” حيث ُ لا تسقط ُالأمطار”.
*****
موضوعةُ هذه الروايةِ تتمحورُ حولَ عودةِ بطلِها ( شخصيّـتِها الرئيسة) إلى بلادهِ بعد عشرينَ سنةً من اغترابٍ فرضتهُ عواملُ عديدةٌ، لعلَّ أبرزها انتماءُ هذا البطل إلى أيديولوجيا ثوريّة تؤمنُ أشدَّ الإيمانِ بتغييرِ واقعِ الحكمِ الفرديّ ذي النزعةِ الثيوقراطيّة، ومحاولة الانقلاب عليه، وإن أدّى هذا الفعل النضاليّ إلى شرعنةِ أسلوبِ الاغتيالِ على نحوٍ ميكافيليّ، ما دامَ يوصلُ التنظيمَ إلى هدفه المنشودِ في التخلّصِ من نير قيودِه، وإشاعةِ الحريّةِ،ونشرِ العدل. لذلك فحين يُتّهمُ البطلُ بمحاولةِ اغتيالِ حاكمِ البلدِ المرموز له بـ” الحفيد” لا يجدُ هذا الثوريّ ُ طريقاً غير المنافي تخلّصاً ممّا ينتظره من حكمٍ قد يقوده إلى الموتِ لو أنّه وقعَ في قبضةِ أزلامِ الحفيد، ومؤسّستهِ الأمنيّة.
اختارَ الكاتبُ طريقةَ السردِ الذاتيِّ، أو ما اصطلِحَ عليهِ بـ” تقنيةِ الراوي العليم” في إيصالِ فلسفةِ نصّهِ إلى القارئ في الأعمِّ الأشملِ، وإن اعتمدَ على تقنياتٍ أخرى كالارتجاعِ، والمناجاةِ،والمحاورة، وغيرها في حالاتِ أخرى تداخلت أحياناً بالتقنية الأولى على نحوٍ من تماهٍ فنيٍّ مقصود.
وممّا تجدر به الإشارة هنا أنّ تقنيةَ الراوي العليم تجعلُ ما يتأتّى من الذاتِ قابلاً للتمحيصِ والشكّ، لكونِ الذاتِ تسردُ حكايتَها على وفقِ ما تفضّلُهُ من كشفٍ، أو ما تحجبُهُ من مسكوتٍ عنه. في حين يكونُ الراوي الموضوعي أقربَ إلى التصديقِ منه إلى الشكِّ،لحيدتهِ في توصيفِ ما جرى للآخرين بموضوعيّةٍ، وإن ركّزَعلى الخارجِ في التوصيفِ لعدمِ قدرتِه على ولوجِ عالمِ الأعماق الذي تتفرّسُ فيه الذاتُ وهي تروي تفاصيل مكنوناتها.
وفيما يأتي أهمُّ محاورِ القراءة:
1 – شخصيّة ُ البطلِ إشكاليّة، فهي وإن كانت ناميةً غيرَ مسطّحةٍ، فإنّها أيضاً مبنيّة ٌ بناءً نفسيّاً لا يخلو من قصديّةٍ في التركيبِ الفنيِّ، فهذه الشخصيّةُ التي كانت متوحّدةً بذاتِها أيّامَ نضالِها ضدَّ حاكم “الحاميةِ” يحدثُ لها انقسامٌ، أو انشطارٌ نفسيٌّ حينَ تُقرّرُ الفرارَ طلباً لتنفّسِ هواءِ الحريّةِ، فتبقى الذاتُ المنفصمةُ في “الحامية” محتفظةً بعفويّـتِها، ويفرّ ُ شطرُها الثاني “القرينُ” إلى الخارجِ محتفظاً بإيديولوجيّـتها، مستعيراً لها قناعاً يحسبه ُ دريئةً يعصمُها من الملاحقة.
إنّ فكرة “القرينِ” المنفصلِ عن الذاتِ كانت من إنجازاتِ حركة ِالتحديثِ الشعريّةِ في العَقدِ الستيني من الألفيّةِ الثانيةِ، وهي وإن لم تشعْ إلّا عند القلّةِ من الشعراءِ، فإنّ “سعدي يوسف” كان أسبَقَهم ارتهاناً فنيّاً بها، لاسيّما في قصيدته “الأخضر بن يوسف ومشاغله” المنشورةِ في مجموعتِهِ الشعريّةِ (الحاملةِ للعنوانِ نفسَهُ)⁽²⁾،التي يقولُ مستهلّها :
نبيّ ٌ يُقاسمُني شُقّتي
يسكُنُ الغرفةَ المستطيلة ْ
وكلِّ صباح ٍ يُشاركُني قهوتي والحليبَ
وسرَّ الليالي الطويلة ْ
وقد أشارَ أمجد ناصر بأمانةٍ إلى أنّه تأثّرَ بمجموعة سعدي يوسف (هذه) تأثّراً كبيراً، سواءٌ أكانت الإشارةُ تصريحاً أم تلميحا ً، لاسيّما في قولهِ الواردِ على لسانِ “القرين” أدهم : ” فعندَ تخومِ لقائكَ به، حدثَ الانفصالُ الذي لم تتوقّعْهُ بينَكَ وبينَكَ “⁽³⁾ ، وهي إشارةٌ إلى ما أحدثتهُ تلك المجموعةُ الشعريّةُ في الشاعرِ الساردِ من قطيعةٍ مع أسلوبِه الإبداعيِّ القديمِ، فضلاً عن إشارتِهِ الواضحةِ إلى ما في المجموعةِ من سحرٍ على ذاتهِ الشاعرةِ، وما فعلتْهُ من أثر ٍ في أعماقهِ الداخليّة في قوله: ” إنّه كتابٌ سحريٌّ. ليس المقصودُ أسرارَهُ، طلاسمَهُ، مثـلّثاتِهُ ومربّعاتِه،فليسَ فيهِ شيء من ذلك. سحرُهُ يكمن، فقط في وقوع ِ كلماتِهِ وصورهِ وهمسهِ الباطنيِّ،على استعدادِكَ الداخليِّ العميقِ كي تنسحرَ. يبدو أنَّ هذا النوعَ من الاستعدادِ الفوّارِ لازمَكَ بعضَ الوقتِ ، فقابليّـتُكَ للانسحابِ تراجعتْ عكساً كلّما طالت الطريقُ وغامت شواخصُها”⁽⁴⁾.
علماً أنَّ الراوية َ لا يوردُ اسمَ المجموعةِ، أو الديوانِ تصريحاً، إنّما يلمّحُ إليه من خللِ تسميةٍ أخرى ينتزعُها من السطر الأول من مستهلِّ القصيدةِ التي قدّمت القرينَ في التطبيقِ، فيسمّي الكتاب “نبيٌّ يُقاسمني شُقّتي” وهي تسميةٌ فيها مفارقةٌ مقصودةٌ من أجلِ إثارةِ المتلقّي ودفعهِ لإثارةِ سؤالٍ هو الآخرُ مقصودٌ.
2 – لغةُ ” حيث لا تسقط الأمطار” لغة ٌ شعريّة، دلّت على أنّ ساردَها واحدٌ من العارفينَ بأسرارِ اللغةِ العربيّةِ جيّداً من خللِ معايشتِهِ الدائمةِ لها طوالَ سنيِّ عمرهِ الإبداعيّ منذ ُ “مديح لمقهى آخر” في العام 1979م، وانتهاءً بـ” وحيداً كذئبِ الفرزدق” في العام 2008م، مروراً بألوانِ الطيفِ الأخرى التي شكّلت لوحاتهِ القلميّةَ السبعَ.
في هذه الروايةِ لا وجودَ لإطنابٍ سرديٍّ مملٍّ، أو إيجازٍ كلاميٍّ مخلٍّ، لأنّ الممارسةَ َ الدؤوبة َ في استخراجِ الجوهريّ، أو الدفينِ المكنونِ من سحرِها كانَ وراءَ هذا العمقِ المكتنزِ بالأخيلةِ والصورِ، وقوّةِ الإيحاءِ في تشكيلِ فقراتِها المتتابعةِ التي تشدّ ُ القارئ إليها شدّاً، لذلكَ لا غروَ في أن يقولَ الدكتور عبد الملك مرتاض عن الروايةِ الجديدةِ إنّها :” ظلّتْ محتفظةً بشيء واحدٍ، بل منحته كلَّ أهميّةٍ وعنايةٍ، وهو اللغة ُ التي اتخذت منها المشكِّلَ (بكسرِ الكافِ المشدّدة) الأوّل لكلِّ عملٍ سرديٍّ”⁽⁵⁾.
ولسنا نشكّ في أنَّ المتلقينَ الجادّينَ من المهتمينَ بجماليّاتِ الصياغةِ، وبنيةِ نسيجِها اللغوي المدهشِ سيكتشفونَ في قراءتِها ما يمكنُ تسميتُهُ بجماليّاتِ الشكلِ السرديِّ في صورها الأبهى، أو الأكثر إمتاعاً.
ولعلّ ما يدعمُ هذا الرأيَ ما نلاحظه من صياغاتٍ مأثورةٍ ( وردت في ثنايا التداعي، و المناجاة) يمكنُ عدّها أقوالاً موجزة ً ترقى إلى مصافِ الأقوالِ الدالّةِ، لما فيها من كلامٍ مأثورٍ ينمّ ُ عن تجاربِ حيويّة، كما في الأقوالِ الآتيةِ:
• ” ليسَ هناك اختراعٌ…قادرٌ على توضيبِ الذاكرةِ وجعلِها تعملُ وفقَ الرغبةِ والطلب” ص:33.
• ” الرفاقُ الذينَ يُشبهونَ الفجلَ: حمرٌ، فقط، من الخارجِ”، 46.
• ” الزمنُ ليسَ ساعةً . الساعةُ ليست وحدةً زمنيّةً إلّا في المرائبِ وماكينات بيعِ قوّةِ العملِ، وأسرّةِ بناتِ الليلِ” ، 62.
• ” وقتٌ تحتاجهُ يمرّ ُ كلمحِ البصرِ، وآخرُ لا يعنيكَ يفيضُ عن الحاجةِ”، 65.
• ” الناسُ هم الذين يُفسدونَ الحكّامَ وليسَ العكسَ”، 99.
• ” مضينا نسعى وراءَ الحريّةِ الغاليةِ على قلوبِنا، حتّى لنعلمَ أنّ بوسعِنا التضحية َ بحياتنا في سبيلِها”، 104.
ولن يعدمَ القارئ الذكيّ غيرها.
3 – لم يكنِ القرينُ في ذكرهِ للرموزِ الفكريّةِ أو الإبداعيّةِ الحديثةِ،أو المعاصرة شفّافاً بقدرِ شفّافيّـتِهِ لما كانَ قديماً منها، وقد انسحبَ هذا على أسفارها بحكم حداثتهاِ أيضاً كما نظنّ ُ. ويبدو أنَّ الساردَ هو الذي كانَ وراءَ هذا الاصطناعِ من التعتيمِ على كلِّ ما هو حديثٌ، أو معيشٌ، سواءٌ أكانَ رمزاً أم سفراً، في حين كان شفّافاً مع رموزهِ القديمةِ أو مظانّها التي وقف عندها.
فإذا كانت رموزُ العملِ السرديِّ وفضاءآتُها تُحتّـمُ على المبدِعِ تناولَها على نحوٍ من التعتيمِ الرمزيِّ قصدَ إخفائها مزاجيّـاً، فليسَ هذا الصنيعُ مبرّراً مع كلِّ ما هو حديثٌ أو معاصرٌ منها، إلّا إذا أرادَ المبدعُ من هذا النهجَ جعلَ القارئ (غيرِ العارفِ بها) يُثيرُ أسئلة القراءةِ الفاعلةِ تحقيقاً لشروطها الجادّةِ، وتقاليدِها المعرفيّة.
ولعلّ ما يوكدُ ما ألمعنا إليهِ، أنَّ هذا القرارَ كانَ عن وعيٍ عامدٍ، فقد تمَّ اتخاذهُ مع سبقِ الإصرارِ والترصّدِ بحجّةِ التحرّرِ من هيمنتِها، وما تحملُهُ من عاداتٍ مزمنةٍ تبرّمَ منها، أو تجاهلها، في أقلّ تقدير، كما في المناجاةِ النفسيّة الآتية : ” لقد قرّرتَ أن تُحرّرَ كتابَكَ من التواريخِ، الجملِ المعترضةِ،الاستطراداتِ،أسماءِ العلَمِ التي تُثقلُ كاهلَها عادةً. هذهِ الأخيرةُ مثّلتْ لكَ، طويلاً، نقاطَ ارتكازٍ ضروريّة، ثمَّ اكتشفتَ خداعَها أو انعدامَ صلابتِها، فعمدتَ إلى تجاهلِها أو استبدالِها بالوصفِ. هناكَ سببٌ في رأسِكَ لهذا التدبيرِ: هو التحرّرُ منها. لكنّكَ لستَ متأكّداً من قوّةِ هذا السببِ . فمن الصعبِ التحرّرُ من الأسماءِ. من الصعبِ، كذلك، التحرّرُ من العاداتِ المزمنةِ والكلماتِ الأثيرةِ والمعاني المطاردةِ”.⁽⁶⁾
وعلى وفقِ هذا جرى تجاهلُ أسفارٍ إبداعيّةٍ عديدةٍ كانَ لها شأنٌ في حركةِ الثقافِة العربيّةِ المعاصرةِ، ناهيكَ عن تجاهلِ أسماءِ منشئيها. فالقرينُ حينَ يُشيرُ إلى قولِ بطلِ روايةٍ عربيّةٍ : “جئتُكم غازياً”⁽⁷⁾، فإنّما يلمّحُ إلى قولةِ مصطفى سعيد بطل رواية “موسمِ الهجرةِ إلى الشمالِ” للطيّب صالح التي عالجت موضوعة َ الصراع ِ بينَ الشرقِ والغربِ فنيّاً، وحينَ يُشيرُ إلى كتاب” نبيٌّ يُقاسمني شُقّتي”⁽⁸⁾، فهو يومئ إلى ديوان سعدي يوسف، أو مجموعتهِ الشعريّة “الأخضر بن يوسف ومشاغله” التي حملت القصيدة التي ابتدعت ظاهرة القرين النفسي في الإبداع الشعري على نحوٍ واضح، وحين يذكرُ أنّهُ قرأَ ” كتاباً يتحدّث ُ عن أمطارٍ وحزنٍ وحبٍّ مستحيل”⁽⁹⁾، فإنّه يومئ إلى ديوانِ “أنشودةِ المطر” لبدر شاكر السيّاب، وقصائد وجدهِ في الشاعرة لميعة عبّاس عمارة (وغيرها كذلك)التي اختلفت عنه في المنحي الديني، فاستحال عليهما اللقاء، وحين يُشيرُ القرينُ إلى صحيفةٍ “ذاتِ لوغو أحمرَ عليهِ منجلٌ وشاكوش”⁽¹⁰⁾، فهو يعني بها جريدة “طريق الشعب” التي كان يصدرُها الحزبُ الشيوعيُّ في العراقِ زمنَ الجبهةِ الوطنيّةِ التي احتوتها جمهوريّةُ الخوفِ،في السبعينيّاتِ من القرنِ العشرنَ، وجعلت أزلام الطاغية تُطاردُ قرّاء هذه الجريدة، لهذا يقولُ صاحبُ المكتبة للقرين : ” ثمَّ تطلّعَ في أكثرَ من اتّجاهٍ وخفضَ صوتَهُ:هناكَ من يُراقبُ الذينَ يشترونها!”⁽¹¹⁾
وليسَ هذا التجاهلُ مقصوراً على الإبداعِ ورموزهِ، إنّما شملَ كلَّ الرموزِ السياسيّةِ التي ارتبطَ بها “القرينُ” أيّام الانتماءِ الحزبيّ، وما مرّ به من أحداثٍ داخليّة، أو خارجيّة سمِعَ بها،أو عاصرحدوثَها زمنيّاً.
لكنّه يعافُ الاحتجابَ والتسترَ إلى التجلّي والكشفِ حينَ يُشيرُ إلى الرموزِ التراثيّة، سواءٌ أكانت إبداعيّةً ، أم فكريّةً ، كما كانَ الحالُ في حديثِهِ عن”نشيدِ الإنشادِ” الذي لسليمانَ، وعن ابنِ مقلة الخطّاط، ومحنةِ ابن حنبلِ، وصلبِ الحلّاجِ، ومقتلِ شهاب الدين السهروردي سنة 1190م، وذكرِ وحدةِ الوجودِ التي قالَ بها ابنُ عربي، ومواقفِ النفّريّ ومخاطباته. وهي إشاراتٌ ذكيّةٌ كشفتْ عن ثقافةِ الكاتبِ الموسوعيّةِ، وتنوّع ِ قراءاته الفلسفيّةِ، فضلاً عن استشهاداته ببعضِ ما وردَ في كتاباتِهم، كما يتّضحُ ذلك في استشهادِه بنشيد الإنشادِ في اللوحةِ السادسةِ من الفصلِ الخامسِ من الرواية، حينَ يوردُ الحوار الآتي على لسانِ “شولميث” رمزِ الجمالِ المترفّعِ الذي افتقده سليمان عند جواريه :
أسندوني بأقراصِ الزبيب،
قووني بالتفّاح،
فقد أسقمني الحبّ ُ…⁽¹³⁾
وكما في استشهادِهِ بمصطلحِ ” ناكوجا آباد” المنقولِ من كتاب السهروردي” أصوات أجنحة جبريل”* بقوله على لسانِ القرين : ” يقولُ الحكيمُ للرائي الذي يسألُهُ من أينَ جاءَ، فيشيرُ إلى إخوانهِ المصطفِّين في صفوفِ السابقينَ عليه قائلاً: لقد جئنا إليكَ من {ناكوجا آباد}⁽¹⁴⁾. وتعني بالعربيّة “مدينةَ اللاأين” أو بلاد اللاأين على وفقِ ما أكّده الراوية ُ، وهذه التسمية ُ تصلحُ كما نظنّ أن تكونَ رمزاً لمدنِ الحُلُمِ، أو اليوتوبيا الضائعة.
4 – نهاية ُ الروايةِ غيرُ متوقّعةٍ، فقد توقّف الراوية ُ العليم عن سردِ رحلتهِ عند مدخلِ المقبرةِ الجديدة للمدينةِ بعد زيارتِهِ لقبرِ والدتِه،وقراءته لسورةِ الفاتحةِ على روحها بمعيّةِ الصغير “يونس” ابنِ شقيقهِ شهاب، فبعدَ نوبةٍ من سعالٍ شديدٍ مصحوبٍ ببصاقٍ دمويٍّ، يمدّ ُ يده على نحوٍ آلي (كما ورد في الرواية) إلى جيب بنطاله (استجابةً لطلبِ يونس الصغير في إكرامِ حارسِ المقبرةِ) فيستخرجُ قطعةَ نقدٍ فضيّة ً كبيرة ً يقدّمها للحارسِ، لكنّ الحارسَ يعيدُها إليهِ متبرّماً، بعدَ أن يقلّبَها بين يديهِ رافضاً أخذها لكونِها لا تُشبه النقودَ التي اعتادَ الحصولَ عليها من زوّارِ المقبرةِ بعد انتهائهم من مراسيمِ الزيارةِ، وحين يتفحّصُ الراوية ُ قطعةَ النقدِ التي أعادَها إليهِ الحارسُ يكتشِفُ أنّها كانت مسكوكة ً لمناسبةِ “اليوبيلِ الفضّيّ” لتنصيبِ “الحفيدِ” ⁽¹⁵⁾، فينتهي السردُ،وتغلقُ الروايةُ غلافها الأخير، فتستدعي هذه النهاية ُ غيرُ المتوقّعةِ فتحَ غلافِ الأسئلةِ المشروعةِ وصولاً لنهاياتِ يقترحُها المتلقّونَ على وفقِ اجتهاداتهم.
ثمّة َ أسئلةٌ عديدةٌ تثيرُها هذه النهايةُ (كما ألمعنا)… فرفضُ الحارسِ للمسكوكةِ (وإن كانَ بدافعِ جهلهِ، فضلاً عمّا فيهِ من عوقٍ الخرس) كنايةٌ عن رفضِ الاستبدادِ وإن قُدِّمَ على طبقٍ من فضّةٍ، كما أنَّ نوبةَ السعالِ المصحوبةِ بالبصاقِ الدمويّ تُشيرُ بوضوحٍ إلى أنّ البطلَ مصدورٌ، وأنَّ المصدورينَ الذين استحكمَ فيهم الداءُ في طريقهم إلى الانطفاءِ، وهو قدرُهم الحتميّ، لكنّ الإشارةَ إلى طائرِ “السيمُرغ” تجعلُ القارئ الجادَّ يربطُ بين هذا الموتِ، وموتِ “السيمُرغ” لأنّ السيمرغ ” لفظ ٌ فارسيّ ٌ يُقابلُ العنقاءَ عندَ العربِ، وهو طائرٌ خرافيّ يقترنُ دائماً ببحثِ الإنسانِ عن الخلود”⁽¹⁶⁾، إذا ً فموتُ الراويةِ سيكونُ كموتِ طائرِ الفينيقِ، سرعانَ ما ينهضُ من رمادهِ فينطلِقُ محلّقاً في السماءِ كنايةً عن خلودِ المبدع ِ في آثارهِ الإبداعيّةِ التي يترُكُها بعدَ الموتِ، فهي التي ستجعله خالداً بينَ الناسِ ما دامتِ الحياةُ الدنيا قائمة.



إحالات
ـــــــــــــ
(1) يُنظر كتاب الدكتور جابر عصفور”زمن الرواية”، القاهرة 1999م.
(2) الأخضر بن يوسف ومشاغله، ط1، مط الأديب، بغداد، 1972م.
(3) و(4) رواية أمجد ناصر، “حيث لا تسقطُ الأمطار” ص145، دار الآداب، بيروت، 2010م.
(5) في نظريّةِ الروايةِ، 30،(سلسلة عالم المعرفة الكويت)،1999م.
(6) حيثُ لا تسقطُ الأمطار، 41.
(7) نفسه، 89.
(8) نفسه، 147.
(9) نفسه، 149
(10) نفسه، 153.
(11) نفسه، 85.
(12) نفسه، 77.
(13) نفسه، 132.
(*) أصوات أجنحة جبريل، هو أحد كتب السهروردي،نشره كوريان، وأعادَ نشره د. عبد الرحمن بدوي في كتابه، شخصيّات قلقة في الإسلام، في العام 1936م.
(14) الرواية، 180- 181م.
(15) نفسه، 263.
(16) د. كامل مصطفى الشيبي “صفحات مكثّفة من تاريخ التصوّف الإسلامي” 153، ط1، دار المناهل، بيروت، 1997م.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *