* محمد الكلاف
وحيدا…أحمل بين يدي أوراقا وقلما… أجوب الكورنيش المطل على الميناء، بحثا عن فكرة…عن قصة…عن لحظة إبداع
احبة هي الأضواء، يحجبها الضباب، فلا ينعكس نورها على صفحة الماء الهادئ هدوء النسيم… هدوء اللحظة…هدوء المكان…
اعترض سبيلي خمسة زبانية غلاظ شداد، مقنعي الوجوه، تحجب عيونهم نظارات كالحة السواد كملابسهم…أحاطوني بأجسادهم الضخمة، كمموني… حجبوا عيوني، ثم لفوني في سيارة سوداء هي الأخرى التي انطلقت تخترق الشوارع والأزقة الخالية بسرعة مخيفة، لتتوقف بعد دقائق في ثلث خال إلا من نعيق الغربان والبوم، اقتدت لحظتها إلى سرداب تحت أنقاض منزل، خيل لي من خلال رائحة الرطوبة أنه مهجور وقديم… كبلوا يدي ورجلي بعدما أجلسوني على كرسي من بقايا العصر الخشبي الأول، ثم أخذوا في استنطاقي، وكلما تشبثت بالصمت، انهالوا علي بالسياط من كل صوب، حتى انسلخ جلدي، وتمزقت ملابسي، وأضحى كل جسدي مباحا لعنفهم ووحشيتهم ، وكلما تعالى صراخي واستغاثتي التي لم تكن تتجاوز حنجرتي، وكأن بها خواء، إلا وازدادوا شراسة وتنكيلا بي وبجسدي.
الأسئلة تلاحق الأسئلة أنت تحلم كثيرا… يجب أن تكون أحلامك على قد مقاسك، لا يحق لك أن تحلم بالألوان… أنت بالكاد تستحق أن تحلم بالأبيض والأسود، فلم تحلم..؟.
فتزداد القسوة كلما ازداد تجاهلي لهم… اللطم والركل والرفس… الصفع والسب والشتم، والنعت بأبشع النعوت.
لحظة توقف الاستفزاز… ساد الصمت، ليتدخل صوت قوي مخيف دعوه لي.
فانفلق جمع الكلاب الشرسة، وبقيت مدرجا بدمائي… أحسست برجل قوية تطأ أصابع رجلي فتسحقها، لم يعد بوسعي أن أتألم، لأنني لم أعد أحس بكل جسدي من شدة التعذيب، ثم استؤنف الاستنطاق.. في وكأنني في مخفر شرطة ألا تريد أن تعترف..؟ ــ من الأحسن لك أن تقول كل شيء، وإلا..؟
حاولت أن أعرف ما اقترفت من ذنب، فأجبت بسؤال بم تريدونني أن أعترف..؟، ماذا تريدون مني..؟ أنت تحرض الناس على القراءة بكتاباتك، وتوهمهم بأن الكتابة فن وإبداع..؟
نعم، الكتابة فن وإبداع … بل الكتابة حياة.
قهقه بصوت متهكم مجلجل، أحدث رجع الصدى في الفراغ… في اللامكان، ثم استطرد بصوت أكثر عصبية أنت جرئ كقلمك الذي يقلق راحتنا، وينتقد توجهاتنا، وسنضع حدا لك ولكتاباتك اللاذعة … ثم صاح فيهم هيا، كهربوه.
وما أن توجوا رأسي بتاج مغناطيسي، حتى تسربت صعقة قوية إلى كل أجزاء جسمي، وشعرت بجسدي يتنمل ويرتعش بقوة غريبة، تهتز لها كل فرائسي، أصبت على إثرها بغيبوبة، ولم أعد أشعر لحظتها بأي شيء، سوى بنفس بطيء … أهذى كالمحموم، وأهلوس كالممسوس… ثم صاح فيهم من جديد اقطعوا لسان قلمه…
انتفضت مذعورا للدفاع عن قلمي الذي صادقني لسنوات سأجعل له لسانا آخر أكثر حدة .
سنقطع يديك.
سأكتب بإرادتي.
سننزع تفكيرك .
سأفكر بضميري.
سنحرق كل أوراقك ودفاترك.
سأتخذ من قلوب الآخرين أوراقي، لأكتب عليها قصائد حب يقرأها كل العشاق…
وبكيت… بكيت بحرارة… بكيت بألم… بكيت بحرقة… ثم صرخت في عمقي بقوة وعصبية أنا أعشق الكتابة حد الجنون… دعوني وأقلامي… اتركوني لكتاباتي… لاشأن لكم بي… لاشأن لكم… والدموع تنهمر من عيني مدرارا… لحظتها أغمي علي … وبعد لحظات صمت وسكينة ، استفقت من الصدمة … لم أجد أحدا في محيطي، كما لم أكن مغلولا أو مكمما، لكني وجدت القلم ذاته ما زال بين أناملي، وبجواري ورقة كتب عليها بصيغة الأمر
ــ أكتب… أكتب ما عنت لك الكتابة .
_________________
* ناقد وكاتب من المغرب (ألف ياء)