محمّد محمّد الخطّابي- غرناطة *
(ثقافات)
عقد من جمان يرصّع جيد الزّمان
-2-
لم يكن الوجود العربي والإسلامي في إسبانيا أمرا عابرا في طيّات الزمن والتاريخ ، بل إنه يشكل إرثا حضاريا نادرا من طراز رفيع، ميّز حقبة تعدّ من أعظم الحقب إشعاعا وازدهارا في تاريخ اسبانيا.
ثمانية عقود من جمان، تزيّن جيد التاريخ الاسباني بالوجود العربي في الأندلس، أصبحت الآن الشغل الشاغل لغير قليل من الإسبان، و لم يعد الاهتمام مقصوراع لى قلة قليلة من الأسماء التي سخّرت حياتها ووهبت نفسها للبحث في هذاالموضوع مثل: أسين بالاثيوس، سانشيس ألبرنوس، مننديث بيدال، باسكوال دي غايانغوس وسواهم ممّن شغفوا بهذه الحضارة و هاموا بها . تضاف إلى تلك الأسماء أسماء أخرى معاصرة مثل:شيخ المستعربين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، خوان فرنيت، بيدرومارتينيس مونطابيث، خوان غويتيسولو،أنطونيو غالا و آخرون كثر، منهم من يجيد اللغة العربية، ومنهم من لا يعرفها، إلاّ أنهم وقفوا جميعا يمعنون النظر ملياّ في هذا العطاء الثرّ الذي أنار بنور المجد صفحات ناصعة من التاريخ العربي والإسلامي في اسبانيا.
هذه الحقبة من الزمن أصبحت اليوم حديث الناس في إسبانيا فى كل منتدى و منبر ومحفل ودار ومدرج.إنّ زمن التزمّت الأعمى قد ولىّ، و طفق في التلاشي كالزّبد الذي يذهب جفاء، وبدأ الاهتمام بالإرث الحضاري العربي يتزايد و يتكاثر و ينمو في كل مدينة و مدشر، و في كل صقع من أصقاع هذه الجزيرة المحروسة.
إنّ سنة 711م (92 هجرية) لم تعد لدى الاسبان مجرد تاريخ غزو، اقتحمت فيه سنابك خيول طارق ابن زيّاد أرض الأندلس، بل أصبح هذا التاريخ يعني لدى معظمهم ” فتحا”مبينا للعقول التي كانت لمّا تزل تغطّ في سبات ليل طويل، و” تنويرا ” لنفوس كانت لمّا تزل تتلمس الطريق في دياجي الظلام.
الإسبانية لغتان: عربية ولاتينية
يشير الكاتب الإسباني المعروف ” أنطونيو غالا “:” لقد انصبّ اهتمامي ، على يوم 2 يناير1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكين الكاثولكيين فرناندو وإزابيلاّ، حيث أصبحت إسبانيا فقيرة و منعزلة لمدّة قرون، وأصبحت الدول المسيحية بها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارات السامية العربية والاسلامية فيها ،عندئذ انتهى عصر العلم والحكمة والفنون والثقافة الرفيعة و الذوق و التهذيب و تمّ مزج كل ما هو قوطي و إسلامي المحمّل بكل ما هو ناعم ورقيق، وبالمعارف العربية البليغة ، و كان الذين يطلقون عليه غزوا ، لا يدركون أنّه كان في الواقع فتحا ثقافيا أكثر من أي شيء آخر ،ممّا جعل الإسبان يسبقون عصر النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد يناير 1492 إنتهى كل شيء، أفل ذاك الإشعاع وإدارة الاقتصاد، والفلاحة، و كذا الأعمال و الأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب واليهود ، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة و مغمومة و مخذولة، وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثم كان ما يسمّى باكتشاف العالم الجديد”. ويضيف “غالا ” :” أن مكتبة قصرالحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة “مدينة الزهراء” التي كان بها ما ينيف على 600.000 مجلّد، وقد أحرقها أسقف طليطلة (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكان يسمّى “باب الرملة ” بمدينة غرناطة، فاختفت العديد من الوثائق والمخطوطات، والمظان، وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف في الأندلس ، ويقال إنّ الجنود الذين كلفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها، إذ كان معظمها مكتوبا بماء الذهب والفضّة آية في الرونق والبهاء، ويا لعجائب المصادفات، وغرائب المتناقضات، ففي نفس المدينة التي نقل إليها ما تبقى من هذه الذخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوط) التى نجت من الحرق وهي مدينة(ألكالا دي إيناريس) “قلعة النهر” و تمّ إيداعها في الجامعة التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسه بها سيولد فيما بعد الكاتب الإسباني العالمي الذائع الصّيت ” ميغيل دي سيرفانطيس” صاحب رواية “دون كيشوت”الشهيرة المستوحاة من التراث العربي كذلك كما يؤكد معظم الدارسين الثقات في هذا القبيل.
وأعاد “غالا” توضيح الحقائق التاريخية حول تأثير الحضارة واللغة العربية في الحضارة الاسبانية، و قال إنه بدون إسلام لا يمكن فهم إسبانيا ، وأنّ اللغةالإسبانية تنحدر من لغتين أوّلهما اللغة اللاتينية، وثانيهما اللغة العربية. إنه يقول: “إذا سئلت ما هي الأندلس لقلت إنها عصير غازي يساعد على هضم كل ما يُعطى لها حتى لو كان حجرا، فقد مرّت من هنا مختلف الثقافات بكل معارفها وعلومها ، والثقافة الأندلسية هي من أغنى وأرقى الثقافات تنوّعا وتألقا وإشعاعا.
ويشير” غالا” : “أنه خلال قراءاته العديدة، أو عند كتابته لأيّ كتاب جديد حول الحضارة العربية، فإنه يكتشف كل يوم حقائق مثيرة تدعو للتفكير والتأمّل والإعجاب حقا ، فأجمل المعاني والأشياء في إسبانيا جاءت من الحضارة العربية، بل إنّ أجمل المهن وأغربها وأدقّها وأجملها، وكذلك ميادين تنظيم الإدارة، والجيوش، والفلاحة ، والملاحة، والطبّ، والاقتصاد، وتصنيف الألوان، والأحجار الكريمة، والمهن المتواضعة، كلّ هذه الاشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية وحضارتها، وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الإعتباط، فالعرب أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون، و ظللنا نحن نحاربهم ثمانية قرون لإخراجهم ، و طردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية. فكيف يمكن للمرء أن يحارب نفسه ؟ ذلك أنّ الإسلام كان قد تغلغل في روح كلّ إسباني، فبدون ثقافته لا يمكن فهم إسبانيا، ، بل لا يمكننا أن نفهم حتى اللغة الإسبانية ذاتها هذه الحقيقة تصدم البعض،إلا أنهّم إذا أعملوا النظر، و تأمّلوا جيّدا في هذا الشأن فلا بدّ أنهم سيقبلون بهذه الحقيقة، فالبراهين قائمة والحجج دامغة في هذا القبيل”.
ويقول” غالا “إنّ الذي حدث هنا (في إسبانيا) ليس إكتشافا أو استعمارا مثلما هو عليه الشأن في أمريكا،الذي حدث هنا كان فتحا ثقافيا جليا،إنه شيء يشبه المعجزة التي تبعث على الإعجاب والإنبهار اللذين يغشيان المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العطر الشرقي العبق الفوّاح الذي كانت الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيين والإغريق، فقد وصل العرب بذلك العطر الشرقي والبيزنطي ، ووجدوا في الأندلس ذلك العطر الروماني حيث نتج فيما بعد أو انبثق سحر جديد بهر العالم المعروف في ذلك الإبّان ، لم يدخل العرب إسبانيا بواسطة الحصان وحسب، بل دخلوها فاتحين ناشرين لأضواء المعرفة، وشعاع العلم والحكمة والعرفان”.
ويتعجّب ” أنطونيو غالا “من إسبانيا اليوم التي تقف في وجه كلّ ما هو أجنبي و تنبذه، فالشّعب الإسباني تجري في عروقه مختلف الدماء والسّلالات،ومع ذلك تظهر إسبانيا اليوم بمظهرالعنصرية . و يشير”غالا” بسخرية مبطّنة لاذعة إلى” أنّ أيّ إسباني من مملكة قشتالة لم يكن في إمكانه أن يقوم بأيّ أعمال يدوية كان يقوم بها العرب بمهارة ،كما لم يكن في إمكانه زراعة الأرض، وهذا هو السبب الذي أدّى أو أفضى إلى إكتشاف أمريكا. فجميع هؤلاء الذين لم يكونوا يحبّون القيام بأيّ عمل كان عليهم أن يذهبوا وينتشروا في الأرض ، و كان الإسبانيون شعبا محاربا، فهم يتدرّبون منذ 800 سنة، وكانوا بإستمرار ينتظرون الغنائم بعد هذه الحروب الطويلة الضروس، ومن هنا ذهبوا بحثا عن أرض بكر وكانت هذه الأرض هي أمريكا”.
أدب المنفى داخل الوطن
يرى بعض المؤرّخين المنصفين أنّه من الإخطاء التي يقع فيها بعض الكتّاب والباحثين فى مجال ما يسمّى بإكتشاف العالم الجديد قولهم بعد أن أجازوا مصطلح “لقاء” بدل ” إكتشاف” بأنّ هذا اللقاء كان بين عالمين أو ثقافتين إثنتين، وهذا حيف واضح وخطأ فادح ، وأنّه من الإنصاف القول أنّ هذا اللقاء كان بين ثقافات ثلاث” وهي الأوربية، والأمريكية الأصلية إلى جانب الإرث العربي الزاخر والتأثير العميق للثقافة الإسلامية التي جاءت مع الإسبان الذين وفدوا على هذه الديار زرافات ووحدانا ،والهجرات المتوالية والمتعاقبة التي حدثت فيما بعد بشكل متواتر وغير منقطع حيث أطلق على هذه الاراضي المكتشفة ب”إسبانيا الجديدة”أو “العالم الجديد” . وإسبانيا الجديدة هذه لم تقم سوى على إشعاع وآثار حضارة حتّى وإن صادفت نهايتها مع بداية الإكتشاف إلاّ أنها كانت لمّا تزل قائمة فى مختلف مظاهر الحياة وداخل الأنفس والعقول ذاتها.
ففي ذلك الإبّان ،أي بعد تاريخ 12 إكتوبر 1492 لم تكن الرقعة الجغرافية الإسبانية خالية من العرب والأمازيغ (البربر) المسلمين، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده ،وهناك من آثر البقاء متظاهرا باعتناق الكاثوليكية ،والذين نجوا وبقوا سمّوا بالموريسكيين ،فقد كان منهم أمهر الصنّاع والمهندسين والعلماء والمعلمين وخبراء الرّي والفلاحة ، بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية فى البلاد ليس فى الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفى مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة فى شمالها الشرقي بيد العرب المسلمين.
وهناك وثائق تؤكّد هذه الحقائق التاريخية ، فكيف والحالة هذه ألاّ يحمل الإسبان الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا”التأثير”..؟ بل قد يصل بنا التساؤل والقول بأنّ هناك من المسلمين المغلوبين على أمرهم من هاجر مع أفواج المهاجرين الإسبان ، وإلاّ من أين جاءت هذه الدور ذات الباحات والنافورات العربية التي بنيت فى العديد من بلدان أمريكا اللاتينية ..؟ وهذه اأقبية والأقواس والعقود والشبابيك العربية؟ بل والأبعد من ذلك هذه الكنائس التي كانوا يبنونهاغداة وصولهم ويظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح ، بل لقد استعمل بعضهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار وحكم وآيات قرآنية إعتقادا منهم أنه من علامات الزينة فى البيوتات الكبرى والقصور فى إسبانيا، وتعلو وجه المرء (العربي) إبتسامة ممزوجة بالرضى والمرارة معا عندما يجد بعض تلك الأشعار والآيات القرآنية وقد وضعت مقلوبة على تلك البلاطات أو الرخامات أوالزليج.
ولم ينحصر الوجود العربي عند سقوط غرناطة آخر المعاقل الإسلامية بالأندلس فى عام 1492 بل امتدّ إلى قرون أخرى من التعايش في حقبة ما يسمّى بالمورسكيين ، الذين استمرّوا في إبراز العبقرية العربية في مختلف نشاطاتهم الحياتية، والإبداعية، و المعمارية حتى و إن تعرّضوا لحياة القهر والذلّ والمهانة والتعنّت والمظالم والمتابعة والتفتيش إلخ.
كان للموريسكيين أدب سرّى أوما كان يطلق عليه ب “أدب المنفى داخل الوطن” وهو أدب مؤثّر وبليغ يسمّى باللغة الإسبانية الخاميادة أو الخامية بمعنى(العجمية)،وقد أطلق عليه هذا النعت لأنّه أدب مكتوب إنطلاقا من اللغة الإسبانية ولكنّه يستعمل حروفا عربية ،وكان الإسبان من ناحيتهم يطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها عرب إسبانيا فى آخر عهدهم بالأندلس ،ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر اوإستعادة النفوذ قرّر الملك فيليبّي الثاني بأن يصدر ظهيرا أو مرسوما بين1609-1614 بطرد آخر المسلمين من إسبانيا . ويشير الباحث “لوبث بارالت”:” أنّ هذا القرار الدرامي المجحف الذي إتّخذه فليبي الثاني كان سببا فى إثارة جدل هائج ما زال يسمع صداه حتّى اليوم”.
وإذا كان هذا يحدث فى القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من سقوط غرناطة وصول الإسبان إلى”العالم الجديد” فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما “اكتشفت ” أمريكا كانت لمّا تزل واقعة تحت التأثيرالعربي الإسلامي، وأنّ العادات والتقاليد وفنون المعمار وأسماء الحرف والمهن والصناعات والإبتكارات والآلات البحر ية، والعسكرية والفلاحية وعشرات الآلاف من المسمّيات كانت عربية أو على الأقل من جذر أو أصل أو أثل عربي ،وهي التي استعملت فى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وظلّت مستعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا.
ويتحدّث الباحث المكسيكي “مانويل لوبث دي لا بارّا” فى بحث له تحت عنوان”عام 1492″ عن التأثير العربي فى الحياة الإسبانية بشكل عام خلال هذا التاريخ فيشير:” أنّ حرب إسترجاع غرناطة دامت 11 سنة ،وانتهت بانتصار الملكين الكاثوليكيين فى الحمراء فى 2 يناير 1492 وكان ذلك حدّا للوجود السياسي العربي الطويل فى إسبانيا الذي يرجع إلى 711 م إلاّ أنّ الوجود الفعلي للعرب فى شبه الجزيرة الإيبيرية لم ينته عام 1492 ففى غرناطة وحدها كان يعيش حوالي 4 ملايين من السكّان فى حين كانت هناك 6 ملايين تتوزّع على باقي إسبانيا، والقسط الأكبر من هؤلاء السكّان كانوا من العرب والأمازيغ، وكان معظمهم يعمل فى الفلاحة والصناعة وتربية المواشي . وكانت لديهم ثروات هائلة من أراض خصبة بفضل علومهم الفلاحية الواسعة ومجهوداتهم، وشاءت الأقدار أو الصّدف أنه فى نفس ذلك التاريخ من القرن الخامس عشر بدأ عصر الإكتشافات الجغرافية الكبرى وأضيفت قارّة جديدة إلى خريطة العالم بعد رحلة كولومبوس التاريخية حيث انهارت مفاهيم الفلسفة الجغرافية القديمة ، ونظرا لقرب بل ولتلاقي المسافة الزمنية بين سقوط غرناطة وهذا الاكتشاف (نفس السنة) فإنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال النظر إلى إكتشاف أمريكا بمعزل أو بمنأى عن التأثيرات العربية الإسلامية التي كانت حديثة العهد، والتي كانت لمّا تزل متاصّلة فى المجتمع الإسباني على الرّغم من إنهيار الحكم السياسي فى الأندلس”.
الثقافة الثالثة
وتؤكّد الباحثة المكسيكية العربية الأصل إكرام أنطاكي فى كتاب لها بعنوان”الثقافة العربية أو الثقافة الثالثة” مدى تأثير الحضارة العربية فى عملية اكتشاف العالم الجديد.وهي تسمّي هذا الجانب المؤثّر ب “الثقافة الثالثة”وتعني بها الثقافة العربية الإسلامية التي تعتبر من مكوّنات شعوب أمريكا اللاتينية. تشير الباحثة فى هذا الموضوع بالحرف الواحد:”إنّ المكتشفين وصلوا إلى المكسيك( وباقي بلدان هذه القارّة) مستحضرين معهم ثمانية قرون من الوجود العربي والتأثير الإسلامي فى إسبانيا، وإنه فى كل لحظة كانوا يستعملون الكلمات العربية أو التي هي من أصل عربي وهي ما زالت موجودة ومنتشرة فى هذه الربوع إلى الآن”.
وهكذا فإنّ كتاب “الثقافة الثالثة” يعالج تأثيرالعرب فى المكسيك وبالتالي فى باقي بلدان أمريكا اللاتينية بالخصوص فى ميدان المعمار ومختلف مظاهر الحياة الأخرى ،وتقول المؤلفة فى ذلك:”الحديث لا ينقطع عن التأثير الإسباني المكسيكي ويكاد لا يذكر شئ عن الجذور الإسلامية العربية التي هي فى الواقع أصل هذا التأثير”.وتقول الكاتبة أنّ “اللقاء” الذي تمّ لم يكن بين ثقافتين إثنتين وهي الإسبانية والهندية الأصلية وحسب كما يقال من باب الحيف والشطط ، بل كان بين ثقافات ثلاث مضافا إليها الثقافة العربية الإسلامية.
وتؤكّد إكرام أنطاكي أنّ الذين قدموا من إسبانيا ليستوطنوا المكسيك بعد وصول كولومبوس إلى العالم الجديد كانوا بعيدين عن الحضارة ، وكانوا أقرب إلى الوحشية والهمجية ، وانّ الجانب المشرق الوحيد الذي جاءوا به معهم هو الإرث العربي الإسلامي،وقد طّعّم التأثير العربي فى المكسيك بالهجرات العربية المتوالية التي حدثت فيما بعد حيث إستقرّ ت العديد من الأسر العربية المترحّلة فى هذا البلد، وما فتئ أولاد وأحفاد هؤلاء يرجعون بأبصارهم وأفئدتهم وضمائرهم إلى ماضيهم وأجدادهم وكلهم فخر وإعجاب بهذا الماضي العريق.
ويشير الباحث المكسيكي” أدالبيرتو ريّوس” فى نفس السياق :”أنه من العبث التأكيد على مصطلح”لقاء عالمين”أو ثقافتين إذ تبقى إفرقيا وآسيا بذلك خارج هذا المفهوم وهما شريكان فى هذا الموضوع تاريخيا”.ويضيف: “من الصعوبة أن يفهم الإسبان لماذا لا تزال تلهمنا مواضيع الغزو وهم يزعمون أنه ليس لهم أمثال شبيهة بما حدث مع الرومان والعرب بالنسبة لإسبانيا نفسها، ويجهلون أو يتجاهلون أنّ التاريخ الذي بدأ منذ خمسمائة سنة له معنى تراجيدي فى حياتنا”.
ويؤكّد الرّاحل كارلوس فوينتيس فى كتابه”سيرفانتيس أو نقد القراءة” فى مجال التأثير العربي والإسلامي فى إسبانيا والذي إنتقل بشكل أو بآخر إلى القارة الجديدة :”أنهّ من العجب أن نتذكّر أنّ الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرومان الضالعين عمليا فى المناطق الأوربية استعادوا مواقعهم، وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية ، فضلا عن العديد من الإبتكارات العلمية والطبية فى الوقت الذي كانت فيه أوربا مريضة ويتمّ علاجها بواسطة التعزيم والرقيّة والتعويذ والتمائم ” .ويضيف:” فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوربا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية حيث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية”.
.
المسلمون كانوا أساتذة الغرب
كان للغة العربية تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على إمتداد العصور، وهي الآن تعيش جنبا إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة ،ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وقوّة وعظمة وجزالة وفحولة وجمال وجلال لغتنا الجميلة التى ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعة مرنة سلسة عذبة متفتّحة متسامحة، ينبوع حنان وجنان كأمّ رؤوم تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما. وتعيش اللغة الإسبانية بدورها في الوقت الحاضر تألقا وازدهارا وقبولا وانتشارا كبيرين في مختلف ربوع المعمور.
إنه لا جدال في أنّ اللغة العربية ظلت لعدة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السائدة في العالم ، ولا عجب ان نسمع” ألبارو القرطبي” وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي يستنكر إنصراف المسيحيين في إسبانيا عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم باللغة العربية وآدابها وإنفاقهم الكثير في سبيل إقتناء كتبها ، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصا واحدا يستطيع أن يكتب باللاتينية خطابا صحيحا إلى صديق له”. ويؤكد الباحث المكسيكي “أنطونيو ألاتورّي ” صاحب كتاب ” ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الاسبانية :”انه عندما عمد الى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الاسبانية ، وصار ينقّب في الوثائق والمراجع تيقّن له أنّ شيئا غير عادي كان يحدث له ، حيث وجد نفسه يربط التاريخ باللغة” . ويضيف : “لقد بهرني العهد المتعلق بوجود العرب والمسلمين في إسبانيا ، بل إنني شعرت بإنجذاب كبير نحو هذا العهد ، وإنّ أبرز ما إسترعى انتباهي، وسيطرعلى مجامعي في هذا العهد العربي الزاهر هو التسامح ، فالعرب بعد أن إستقرّوا في إسبانيا لم يكونوا ذوي عصبيّة ، بل إنهم جعلوا مبدأ التسامح ديدنهم ، فساد هذا المبدأ في إسبانيا إبّان وجودهم بها ،كان الناس يعيشون في رغد ورفاهية من العيش، لدرجة أنّ كثيرا من سكان إسبانيا القدامى أصبحوا عربا بطريقة عفوية طبيعية ، لقد وجدوا طريقة الحياة العربية مريحة وجميلة ، وكان دينهم أقل تعقيدا من المسيحية ، واتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ والإزدهار في مختلف مناحي الحياة”.ويضيف ألاتورّي:” إنّ هناك شهادة الفيض الهائل من الكلمات العربية التي دخلت واستقرّت في اللغة الاسبانية ليس قهرا ولا قسرا ، بل لقد تقبّلها الناس طواعية واختيارا لقد كان العرب والمسلمون الذين عاشوا في إسبانيا بحق أساتذة الغرب”.
ويرى المستشرق الكبير” أمريكو كاسترو” أنّ معظم الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل ، والسقي ،أو الريّ، والبناء،كلها من أصل عربي ، فمن يبني البناء ؟ ألبانييل(بالإسبانية)وهو البنّاء ،وماذا يبني؟ القصر، القبّة، السطح أو السقف (وهي بالتوالي فى الإسبانية : ألكاسر،ألكوبّا،أسوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرض؟ بالسّاقية، والجبّ، وألبركة (وهي فى الإسبانية نفسها فى العربية):أسيكيا،ألخيبي،ألبيركا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّر، الأرز،النارنج،الليمون ، الخرشوف ، السّلق، السبانخ (وهي فى الإسبانية: أرّوث،نارانخا،الليمون،الكاشوفا،أسيلغا، إيسبيناكاس). وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالمنتوجات التي أدخلها العرب إلى أوربا” . ويصل كاسترو إلى نتيجة مثيرة وهي أنّ فضائل الأثر والعمل عند العرب والمسلمين ،والثراء الإقتصادي الذي كان يعنيه هذا العمل وهذا الأثر كل ذلك قدّم قربانا وضحية من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان”. ويختم “كاسترو” ساخرا :”فذلك الثراء ، وذلك الرخاء ، لم يكونا يساويان شيئا إزاءالشرف الوطني!
______________________________
* كاتب من المغرب يقيم فى إسبانيا .