*بثينة عبد الرحمن
وسط ظلام دامس وحالك عدا بقعة ضوء وحيدة وساطعة تم توجييها بإتقان تام يظهر رجلا واقفا قبالة صندوق شفاف يتربع بداخله تمثال سرادق الملح أو السوليرا ذلك التمثال الذي يصفونه بأنه جوهرة تاج فنون عصر النهضة ويمثلون أهميته في عالم النحت بأهمية لوحة الموناليزا في عالم الرسم. يتحدث الرجل قليلا عن حادث سرقة السوليرا معبرا في الختام عن فرحته باستعادته مؤكدا أن ذلك لن يتكرر أبدا.
هذا السيناريو المصور يجئ ضمن حملة إعلانية مكثفة استبق بها متحف الفنون التاريخية، المعروف كذلك باسم متحف الفنون الجميلة عرضا خاصا احتفاء بعودة السوليرا لموقعه بالمتحف بالعاصمة النمساوية فيينا بعد عقد كامل من الزمان تعرض فيه التمثال للسرقة والاختفاء وبعدما تمت استعادته خضع لعمليات ترميم مكلفة بالغة الدقة والإتقان شارك فيها فنانون ونحاتون وتاريخيون وعلماء اجتماع بالإضافة لخبراء إشعاع نووي من وكالة الطاقة الذرية.
شهد حفل افتتاح عودة السوليرا لجمهوره المتعطش، عصر أول من أمس، الرئيس النمساوي هاينز فيشر ووزيرة الثقافة والفنون وضيوف برلمانيين من الاتحاد الأوروبي وحشد من الإعلاميين والدبلوماسيين.
ورغم أن المعرض يحمل اسم «روائع الهابسبرغ» ويضم قطعا فنية نادرة منها الغريب وما هو باهر الجمال والإتقان وتماثيل ومنحوتات ولوحات كانت قبل قرون ملكية خاصة لأباطرة من أسرة الهابسبرغ، إلا أن السوليرا كان الأهم ومحط الأنظار، فبدا وكأنه عروسة وسط باقة من الحسان فهي وإن لم تكن أجملهن إلا أنها الأهم يوم عرسها هكذا كان السوليرا الذي ازداد الاهتمام به كما اكتسب شعبية خاصة بعد حادث السرقة الذي تعرض له.
ذلك الحادث الذي هز النمسا ودعا شرطتها للاستعانة بشرطة دول جوارها التي شاركتها في عمليات بحث أرضية وجوية ومائية دون فائدة بعدما تمكن فني أجهزة إنذار من تسلق سقالة تركها عمال صيانة بجوار حائط الطابق الأول بالمتحف فدخل وخرج بالسوليرا دون أن يشعر به احد.
السرقة تمت نحو السادسة صباح يوم 11 مايو (أيار) 2003. وكما اتضح لاحقا الرجل وضع التمثال تحت سريره بشقة بالعاصمة فيينا لمدة أشهر ومن ثم وضعه داخل كرتونة وحفر له حفرة بغابة على بعد 90 كيلومترا شمال فيينا ودفنه فيها لمدة 3 سنوات حتى يوم 21 يونيو (حزيران) 2006. ولم تنجح الشرطة في استعادة التمثال إلا بعدما طمع السارق في قيمة المكافأة، 70 ألف يورو، مع العلم أن التمثال نفسه يقدر ثمنه بـ50 مليون يورو أي ما يعادل 65 مليون دولار. وكانت الشرطة قد تمكنت من ملاحقة السارق بمراقبة اتصالاته بشركة التأمين فهرب منها فنشرت صوره وتمت تحديد هويته من خلال أحد معارفه.
يجسد السوليرا هيئة رجل يرمز لآلهة البحر تقابله امرأة ترمز لآلهة الأرض يجلسان متقابلان فوق قبو أو سرادق للملح. ومعلوم أن الملح آنذاك كان ثروة تعادل قيمته ثروة الذهب بل وكذلك النفط في زماننا هذا. وقد فسر البعض التمثال بأنه تجسيد للتفاعل بين البر والبحر وأن ما يموج تحت قاعدته بانعكاس لحركة الرياح والحيوانات ومواقيت الأنشطة البشرية.
يعتبر السوليرا أشهر أعمال النحات الإيطالي بينفينتو سيلليني وبعد سنوات من عمل شاق أكلمه في عام 1543 بمقياس 26 في 33,5 سنتيمتر بطلب من الكاردينال فرانس دايستي، فيما يقول مؤرخون إن التمثال وصل لملكية الهابسبرغ كهدية من الملك الفرنسي شارل التاسع النمساوي فيردناند الثاني.
هذا وقد ظل السوليرا منذ القرن التاسع عشر معروضا بمتحف الفنون التاريخية، الذي يعد واحدا من أفخم وأثرى المتاحف عالميا ليس من حيث معروضاته، التي تضم فنون راقية ومتنوعة من الإغريقية والفرعونية والأوروبية. يعود تاريخ افتتاح المتحف للعام 1891.
من جانبه لا يقل الفنان الإيطالي بينفينتو سيلليني نفسه شهرة عن السوليرا الذي يعتبر عمله الذهبي الوحيد ولا تقتصر شهرة سيليني لما قام به من إبداعات كنحات وسباك وموسيقي وجوهرجي وكاتب فحسب وإنما لحياته الخاصة كذلك والتي لم تخل بدورها من سرقات وجرائم واتهامات بالاغتيال وهروب ومحاولات اختفاء أكثر من مرة لم يخرجه منها غير أساقفة ورجال دولة كانوا من المعجبين بأعماله ومهارته.
مما يجدر ذكره أن السوليرا، وكما أدلت وزيرة الداخلية النمساوية يوم سرقته، يعتبر ثروة فنية معروفة عالميا لدرجة أنه يعتبر واحدا من الأعمال الخالدة التي يمكن التعرف عليها مما يستحيل بيعه وشرائه حتى ولو تمت إذابته.
___________
(الشرق الأوسط)