الثقافة خارج ربيعها


*شوقي بزيع

لم يكن “الربيع العربي”، الذي تفتحت براعمه الأولى في تربة الأطراف التونسية النائية قبل أكثر من عامين، صدى مباشراً للفكر العربي التنويري، كما كان الأمر مع الثورة الفرنسية وثورات الغرب الأخرى . بل بدت الثورات العربية بمعظمها خارجة من أحشاء القهر والتعسف والإفقار المتمادي للطبقات المسحوقة، لا من بطون الكتب الداعية إلى التحرر والتغيير والإمساك بزمام المستقبل . فالدعوات التنويرية النهضوية التي أطلقها مفكرون رواد من أمثال الأفغاني والكواكبي والطهطاوي والشدياق ومحمد عبده كانت قد آلت بعد قرن ونصف من الزمن إلى خفوت كامل، في حين أن الكثير من المثقفين الجدد كانوا عدا قلة منهم، قد أخلدوا إلى القنوط والصمت، أو التحقوا بولائم السلاطين والسلطات الحاكمة . أما بعض القابضين على جمر أحلامهم الغاضبة فقد تعرضت كتبهم للمصادرة والمنع على يد الأصوليات الظلامية المستشرية، وصولاً إلى الاغتيال أو النفي ومحاولات القتل، كما حدث للعديد من الكتاب والمفكرين العرب .

من الصعب بالطبع أن نتصور محاولات عميقة وجذرية للتغيير من دون انعطافة دراماتيكية أو خروج جوهري على المنجز السابق . وهو أمر لا يتصل فقط بحاجة الثقافة إلى زمن للتغير والانعطاف يتجاوز الزمن السياسي وتحولاته السريعة، بل بموقع المثقفين الهامشي مما يدور حولهم وبين ظهرانيهم، بحيث لايزال أكثرهم مندهشاً وفاغراً فاه إزاء ما بدا له غير قابل للتصديق . هكذا بدت الثورات المتلاحقة انعكاساً لصورة الواقع “المعولم” والمدعوم بالتقنيات الحديثة أكثر مما هي انعكاس للواقع الثقافي الراهن ولتجليات العقل العربي الغارق في سباته، كما في قنوطه من التغيير إلى حد بعيد .

سيكون من غير المفاجئ إذاً ألا نرى قصائد أو روايات أو أعمالاً إبداعية موازية للثورات العربية الممتخضة عن ضراوة الاستبداد الحاكم واستخفافه بالفئات الشعبية الأكثر تضرراً وانسحاقاً، والتي وجدت في الإسلام السياسي الممر الإجباري شبه الوحيد لتحقيق هويتها الممحوة . لقد تمت العودة إلى المربعات الميتافيزيقية والدينية من قبل الفئات الأوسع من الطبقات والشرائح المهمشة كنوع من التحصن بالماضي في وجه حاضر خانق ومستقبل مسدود الأفق .

لقد كان ما حدث في العالم العربي أشبه بانفجار عفوي سبّبه إذلال للشعوب طال أمده، ووصول بدوس الكرامات إلى الحدود القصوى التي يتعذر معها إصلاح الخلل .

لا يمكن في السياق إغفال الدور الطليعي لجيل الشباب، المزود بتقنيات العالم المعاصر وشبكات تواصله المختلفة، في تحويل شرارة البوعزيزي إلى نار هائلة سرعان ما اندلعت في غابة “الموات” العربي، ولعل الأمر المفاجئ هنا يكمن في قدرة الأجيال الجديدة على الالتقاط السريع والذكي لحركة الزلازل العربية الجوفية وإمساكها بزمام المبادرة، بعد أن ظن الكثيرون أن هذه الأجيال مغيبة تماماً عن واقع الأمة المأزوم، وموزعة بين علب الليل وتعاطي المخدرات ونداء الرغبات المحمومة .

ليس بالأمر المستغرب تبعاً لذلك أن تظل النتاجات الإبداعية والفنية التي أعقبت الثورات العربية المختلفة أمينة تماماً لحساسياتها القديمة وأنماط تعبيرها المألوفة . فكل ما تتم كتابته وإصداره من قبل الشعراء والكتاب والفنانين لا يحمل أية ريح للتمرد والانتفاض على المهانة، فليسوا هم أنفسهم الذين حصدوا العاصفة، بل تقدمت جحافل الأرياف النائية والجموع التي تأتم بالفتاوى العمياء لكي تقلب الصورة رأساً على عقب، ولتداهم المدن والحواضر العربية في عقر دارها، تماماً كما لو أن قراءة ابن خلدون للتاريخ لاتزال قابلة للتحقق في القرن الجديد .

لا أملك في هذا المقام سوى أن أتذكر قصيدة الشاعر المصري الراحل حلمي سالم في امتداح الجيش المصري الذي رأى فيه صاحب “الأبيض المتوسط” صمام أمان الثورة المجيدة وحارس المستقبل الأمثل . في حين أن قصائد كثيرة أخرى جاءت أقرب إلى الأهازيج والأناشيد المدرسية منها إلى اشتعالات اللغة وسبر أغوار الواقع الزلزالي الذي يمور بالتحولات . ولا يعني ذلك بأي حال نعياً للثورات العربية أو تنصلاً من وعودها . ولا يعني في الوقت ذاته انتقاصاً من دور الثقافة المفصلي في عملية البناء والتنوير المعرفي . فالثورات الحقيقية لم تبدأ في رأيي المتواضع بعد . وما حدث لم يكن سوى انتفاضات عارمة وغاضبة، بل ودموية، ضد اهتراء القيم واستشراء الظلم وانسداد الأفق، وثمة الكثير أمام المثقفين والمبدعين لكي يفعلوه في الشهور والسنوات القريبة .
_____________
* شاعر من لبنان (الخليج)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *