*يوسف ضمرة
ما يعنيني بالطبع هو النقد العربي الغريب والعجيب. فأنت كثيراً ما تقرأ كلاماً تحت باب النقد، لتكتشف أنه عبارة عن أفكار الناقد التي يحب أن يعمّمها في كتاباته أينما كتب، وأياً كانت المادة المنقودة. وكثيراً ما تقرأ كلاماً تحت باب النقد أيضاً، محشواً بشعارات وحاملاً أيديولوجيا الناقد التي قد تكون منسجمة مع المادة المنقودة أو لا تكون. وكثيراً ما نقرأ كلاماً تحت شعار النقد، يقوم باختزال العمل المنقود إلى حِكم ومواقف وشعارات. فالذين كتبوا عن «عائد إلى حيفا»، مثلاً، اختزلوا الرواية في جملة لغسان كنفاني هي «الإنسان قضية»، والذين كتبوا عن «رجال في الشمس» اختزلوا تراجيديا عظيمة في سؤال سأله غسان على لسان إحدى شخصياته التي تقول بعتاب: لماذا لم يدقوا جدران الخزان. والذين كتبوا عن مدام بوفاري الرواية التي أشاعت ما سمي بالبوفارية في الأدب قالوا إن مدام بوفاري تمثل الحماقة البشرية.. وكثيرة هي الأمثلة بالطبع، ولكن علينا التنبيه إلى أننا لا نعمم في هذا الكلام، ففي كل ما يقال دائماً ثمة استثناءات وإنْ كانت قليلة.
ماذا يعني هذا؟ إنه عقل ينمّ عن استسهال الكتابة النقدية أولاً، وعقل ينمّ عن اللامبالاة الفاضحة تجاه الأعمال الفنية من جهة، وتجاه القارئ من جهة ثانية. فالناقد العربي يقرأ ما يكتب في الغرب من نقود، ويجد أن من السهل عليه الاكتفاء ببعض ما يقال عنها ليعيد كتابته وتسويقه عربياً. وحين يتناول عملاً عربياً فهو يظل مسكوناً بأفكار المتلقي، الأمر الذي يجعله يعيد إنتاج هذه الأفكار في أي كتابة نقدية يرتكبها. وهي عملية تعود على الناقد بالنفع كما يظن، من دون أن يحسب للقيمة النقدية أي حساب. فهو مكتفٍ برضا المتلقي. أي أن الناقد العربي يجد صعوبة في مخالفة المتلقي العربي وأفكاره التي يتبناها، لأن المخالفة تعني أنه ملزم بتقديم المبررات الفنية والموضوعية التي تخالف السائد، وهو ما يكلف الناقد جهداً لا يحب التورط فيه. ومن جهة أخرى فكثير من النقاد العرب لا يدركون أن النقد عملية إبداعية في حد ذاتها. إنه كتابة جديدة تغوص في كتابة مسبوقة. وهذه الكتابة الجديدة لا تلخص ولا تختزل ولا تضع الكتابة المسبوقة ضمن قوالب وشعارات جاهزة. الكتابة الجديدة ملزمة بالمغامرة في الذهاب بعيداً في التأويل من خلال الإشارات والعلامات التي تنطوي عليها الكتابة المنقودة. فمهما حاول المبدع أن يتشاطر أو يخفي شيئاً، إلا أن هذه العلامات والإشارات تظل موجودة رغم أنفه. فثمة ذات كاتبة وهي ذات الكاتب الواعية، وثمة ذات تسمى «الذات تحت الكاتبة»، وهذه هي الذات غير المسيطر عليها كلياً، ومنها يتسرب إلى النص كل ما يمكن لنا الاسترشاد به والاستدلال به وعليه. ومهمة الناقد الحقيقي تكمن في قدرته على التقاط هذه العلامات والإشارات والرموز، ليحولها إلى معانٍ وأفكار ومدلولات ربما قصد بعضها الكاتب وربما لم يقصد.
ارحمونا أيها النقاد من تلخيصاتكم للنصوص التي نقرأها كاملة، وارحمونا من شعاراتكم ومواقفكم، فلنا المقدرة على اتخاذ المواقف وقراءتها في أي نص. كونوا مغامرين واذهبوا عميقاً في النص.
_____________
* الإمارات اليوم