* نبراس شحيّد
امرأة برائحة الوطن
هل تذكر تلك الصديقة العزيزة ما قالته لي يوماً عن أجمل لقاءاتها العاطفية؟ كان الشاب فلسطينياً تعرّفَتْهُ في إحدى سهرات السمر الدافئة. الجميع كان يتحدث إلا الغريب هذا، فقد ظل ينظر في عينيها بوقاحةٍ ساحرة. ارتبكت الفتاة بدايةً، لكن طيفاً غريباً من نيران العينين المجهولتين استحوذ عليها، لتستسلم بعد برهةٍ إليهما وتدخل في طور الصمت المسكون. هكذا، ضاع الاثنان بحثاً عن شيءٍ ما، عن شعورٍ ما، عن لحظةٍ هشةٍ يؤمنان بها في غموض النظرة المجهولة. لم تفهم الفتاة وقتها ما حدث، وهو بدوره لم يشرح لها، لكنه في الأيام التالية صار يتجنب النظر في عينيها، ثم انقطعت أخباره. “لقد رحل!”. “عمَ كان يبحث؟”، تسألني الصديقة، لتجيب بحكمةٍ أنثوية لا تخيب: “الشاب الغريب رأى في عينيَّ فلسطين التي لم يرها من قبل، فأطبق على الذكرى كي لا يضيع وطنه الذي وجده، ولذلك رحل من دون كلمات…”. هذا ما قالته لي صديقةٌ في يومٍ ما، في مكانٍ ما، عن وطنٍ ما.
“الدون جوان” السوري
أمام حائطٍ غير مكسي، يخفي الشاب وجهه بكفيّة، يجلس القرفصاء ويحمل لافتةً إلى المرأة المجهولة، وعليها كتب: “أنت الوحيدة التي ستعرفينني من عيني. مر عامٌ ونصف عام. اشتقت إليك!”. مر عامٌ ونصف العام والرجل لم يلتقِ المرأة، فهو على ما يبدو عاجزٌ عن الاتصال بها لسبب نجهله. أهو منشقٌّ ويخاف على حياتها من نقمة الشبّيحة؟ ربما. أيخفي وجهه ليحمي من بقي من أهله حياً؟ ربما. أياً يكن الأمر، يكتفي الشاب بإظهار عينين مجهولتين تلتهبان لهفةً إلى امرأةٍ مجهولة، في مكانٍ مجهول. “لكن ألا تتشابه العيون السود؟”، يتساءل سائلٌ بموضوعية؛ “وكيف تستطيع المرأة المجهولة أن تعرف هوية العينين المجهولتين؟”، يتساءل آخر لا يؤمن بالعشق وبنظراته المؤلمة؛ “وهل عند المرأة المجهولة حسابٌ على الـ”فايسبوك؟”، يتساءل صاحب دمٍ ثقيلٍ بسماجة؛ “وهل المرأة المجهولة لا تزال على قيد الحياة؟”، يتساءل وجوديٌّ بنبرةٍ تراجيدية؛ “وهل وُجدت المرأة هذه أصلاً، أم اختلقها صاحبها في شوقٍ مضنٍ إلى شيءٍ يجهله؟”، يتساءل سوري خبر جرح الحنين!
تناقلت الكثير من صفحات الانترنت صورة الشاب الوحيد هذه، وتنوعت التعليقات عليها، فبعضهم عاتبه لأن الجندي “يجب ألاّ يحب!”، والبعض رأى في المرأة المجهولة أماً لا حبيبة، “فرضى الله يأتي وبعده رضى الوالدين” تقول هذه “الفرويدية” التي تجهل ذاتها، في الوقت الذي تمنّى فيه آخرون للشاب الملوّع لقاء حبيبته. لكن بعض النساء كتبن على نحوٍ مدهش: “نعم عرفتك!”؛ “حبيبي، اشتقت إليك!”، قالت أخرياتٌ تعقيباً على الصورة، وقد تقمّصن بحنانٍ فريدٍ دور الأنثى المجهولة. يبحث الشاب الثائر عن امرأة ما، فتجيء الإجابة الأنثوية الثائرة مختلفة: هي ليست أنثى من تبحث عنها، بل “الأنثى في كل أنثى” (سورين كيركيغارد)، وفي بحثك المستحيل هذا عن ألف ولام التعريف تكمن مأساتك، وفي عشق المستحيل يكمن سحر عينيك المجهولتين. هذا ما قالته نساءٌ في يومٍ ما، في مكانٍ ما، عن امرأةٍ ما.
في مقاهي المنفى
تتكرر اللقاءات في مقاهي المنفى بعيداً عن دمشق، ويضيع رجالٌ ونساءٌ أجبروا على ترك بلادهم في شغف العيون. نوعٌ من الحنين الغريب يلفّهم. يتبادلون القبل كما لم يعتادوا عليها في دمشق. تتعانق الأجساد في طقوسٍ جديدة بحثاً عن طيفٍ، عن مجهولٍ، عن شيءٍ لم يوجد ربما يوماً، عن ذكرى لم تحدث. تتلاصق الأجساد في ظلمة المنفى، ولا يزال سواد العينين يبحث عن أنثى، عن ذكرٍ، عن شبحٍ لكن بلون الوطن. “أتعرفين”، يقول الشاب لصديقته الجالسة في زاوية المقهى، “عندي حلمٌ وحيدٌ يحرق حشاي!”. “ما هو؟”، تقول الفتاة بلهفة، فيجيب: “أن أرى وطني حراً، وأموت بعد ذلك بهدوء”. “أتمنى أن ترى دمشقكَ حرة عما قريب”، تقول الفتاة الجميلة بخيبة أمل مبطّنة، لتضيف: “لكنني أتمنى أيضاً أن تعيش طويلاً فتستمتع بوطنك الحر!”. يتمتم الشاب بضع كلماتٍ تفتقر إلى وضوح المعنى، في حين تتابع الفتاة محاولاتها التشجيعية لتحدّثه عن زمن العودة الذي يقترب. أما الشاب فيغمض عينيه العسليتين ليحلم بوطنٍ ما، بامرأةٍ صارت المرأة، بمكانٍ صار المكان، فتسيل من عينيه دمعةٌ يتيمة اعتاد دفنها عميقاً جداً، عميقاً هناك حيث لا توجد إلا ذكرياتٌ خافتةٌ وحلم…
_____________
* راهب يسوعي سوري
جريدة النهار
اللوحة لنذير اسماعيل