درس البيانو


*حسن إغلان

دخلت مدرِّسة البيانو إلى القسم، سرحت بعينيها على الطاولات، الجميع حاضر، طيِّب… سننصت إلى إحدى المعزوفات الرائعة. أشعلت حاسوبها النقال، بحثت في «اليوتيوب» عما تريد، انبعثت الموسيقى من داخل القسم، كأنها تُنقي آذان التلاميذ من وسخ موسيقى الشارع، تتطاير النوطات بين لحظة وأخرى، تتراقص أصابعها كما لو كانت تعزف على البيانو، الجميع ينصت كما لو كان القسم فارغا. فقط، بعض التلاميذ، يكتبون موسيقى في دفاترهم. الموسيقى تَنْكَتِبُ في البياض. الموسيقى تسبح في الفراغ. الموسيقى تأمل الممكن في اللامكان. هكذا كتبت تلميذة في دفترها. انتبهت إليها المدرِّسة الإسبانية ذات الأصول البولونية، أوقفت صوت الحاسوب وطلبت من التلميذة قراءة ما كتبت. قرأت دمعة، أو هكذا يسميها زملاؤها، هي الأخرى أعجبها هذا الاسم، حتى أضحى ملازما لها؛ هو عنوانها الإلكتروني. أومأت دمعة لأستاذتها بإيقاظ الموسيقى من الحاسوب، أزالت وزرتها وحذاءها، وبدأت ترقص إلى حدِّ عجب زملائها. تركتها المدرِّسة، كأنها أعادتها إلى زمنها في مدينة وارسو.
كانت دمعة تحب الرقص منذ صغرها، جسدها النحيل يساعدها على فعل كل الحركات التي تدخل الناظر إليها في الغرابة. كانت تحرك عينيها اللوزيتين، وشعرها الأسود الذي يتطاير بمهل على صدرها. نهداها التفاحيتان يتململان بغنج، قدماها يغازلان الأرض، ويداها تدوران في دائرة، بينما الأصابع تلعب بهما كما تريد. التلاميذ ينظرون إليها بشغف، و إن كانت إحداهن تغمز لزميلتها بمكر طائش. حين انتهت الموسيقى، توقفت دمعة على أصابع رجليها، وبانحناءة طفيفة حيَّت زملاءها وأساتذتها. عادت إلى طاولتها بعد أن ارتدت وزرتها وحذاءها. لم يصفق القسم على دمعة، لكن أستاذتها أطلقت صرخة «برافو»، ردت عليها دمعة: شكرا.
قالت الأستاذة: أين تعلَّمت الرقص؟
أجابت: في بيتنا
لم تستوعب معلِّمة البيانو الإجابة، لكنها ابتلعتها دون أن تقول شيئا. انتهت ساعة درس الموسيقى. خرج التلاميذ إلى الساحة، بينما دمعة، ظلت تحاول عبثا جمع شعرها حتى لا يتطاير بريح الخريف. بينما المدرِّسة تجمع أدواتها ومحفظتها وحاسوبها النقال لتخرج، سألتها دمعة عن رقصتها. قالت المدرِّسة: هي رقصة جميلة، توقظ النار في العيون. لم تفهم دمعة ما تعنيه المدرِّسة، لكنها قالت: أريد أن أرقص عارية كما الملائكة تماما. استغربت المدرسة لذلك، ردت عليها: يمكنك ذلك حين تكونين لوحدك، أما هنا فالأمر مختلف، وواقع المدرسة ذكوري حتى السأم، أو بالأحرى حتى الغثيان. شدت دمعة أصابعها دون أن تنبس ببنت شفة. خرجت المدرِّسة ورغْبَةُ دمعة تلفُّ دواخلها كأنها تريد ذلك.
المَدْرسة صفراء كما الخريف تماما. التلاميذ يلعبون، ودمعة تقرأ سيرة «بيتهوفن»، حزينة دون أن تقول حزنها لأحد، ضحوكة كما انفلات العظام عن الجسد، خجولة كما البدوية الصغيرة التي لا تعرف الحب إلا في الأغنيات، بعيدة من الأرض، قريبة من السماء، أو أنها تجلس بينهما. عيناها ترسمان السماء بالألوان، ويداها تضعان العلامة والرمز في الأرض. طوت كتابها، وضعته في حقيبتها، وتسلَّلت نحو زملائها الذين شيَّعوا الخبر في المدرسة. طلب زميلها البدوي أن تعلمه الرقص، ردت عليه: الرقص لا يُعلَّم، الرقص حياة، الرقص روح تندفع لمعانقة الملائكة في السماء، الرقص انتظار من تحب، الرقص رقص. والموسيقى إيقاع يُلوِّي الدواخل، ويستبطن المواعيد البعيدة، مثلما يحتال على المواجع. الرقص خشبة الله في الأرض. لم يستوعب التلميذ البدويُّ كلام زميلته؛ اعتبر كلامها في الأول مسّاً شيطانيّاً، تذكر خالته الصغيرة التي ترقص في كل الحفلات داخل القبيلة، كأن الموسيقى البعيدة تدعوها للرقص، حتى أصيبت العائلة بالقيل والقال، زوَّجوها عنوة، لكنها لم تبطل الرقص، كأن في الرقص توازنها، كأن التوازن لسانها. حملتها الجدة إلى الأضرحة دون نتيجة، قيل لها إنها مسكونة بجِنِّية إفريقية تحب الرقص والغناء. انتبه البدوي لشروده أمام دمعة، فقال لها: وجدتها، وجدتها. قالت دمعة: طار عقلك أيها البدوي. قال البدوي: ارقصي أمامي كي أتعلم. وعدته دمعة بذلك، وانسلت من عينيه الغامضتين.
وصلت دمعة إلى بيتها، أزالت ملابسها، دخلت الدوش وهي تغني بأعلى صوتها. أمرتها أمها بالسكوت. خرير الماء المتدفِّق يُفتِّت صوت الأم، ويرميه إلى مجرى المياه. نشَّفت جسدها بفوطة حمراء. مسحت المرآة، ونظرت إلى جسدها وهو يتموسق حبّاً ونُضجاً. أحست بزغب يطفو تحت سرتها، قصته بمقص خفيف، حتى أضحى فراشا للعصافير البعيدة. ارتدت بيجامتها البيضاء، تناولت قهوة المساء، دخلت غرفتها وبدأت تسمع البيانو، وترقص عارية كما تريد؛ تريد تكسير العيون، خلخلة المآذن، توزيع الجمال على الشحاذين والمتلصِّصين في كل الأمكنة المدفونة في المدرسة، كانت تودُّ زرع الياسمين في الجنبات، في الأرصفة المقفرة في صدر البدوي الذي يناوش ظلها بعينيه الغامضتين، كانت تريد رقصة النار، النار المشتعلة في الخلاء وهي تتراقص باختلاف ألوانها، دون أن يكون الريح سببا في ذلك. هي الآن تبحث عن موسيقى تكون منسجمة مع النار. النار تحرق، هكذا قالت، دون أن تعطي لكلامها قيمة.
هي النار، وقد تستعر لاختراق رمادها، هي البحَّة السجينة في حلقها، هي دمعة كما يسميها الجميع، فقط، سمتها المدرِّسة الإسبانية دمعة إيروس، دون أن تخبرها بذلك، ربما هي لا تعرف إيروس. المدرِّسة تعرف فضولية دمعة، ستبحث عن إيروس في الأنترنت، وستجده عند غوغل، ستتهاوى دمعة مع إيروس اللعين، ستسقط في حبه، ستعشقه، سترقص له عارية في منتصف الليل، ستنزل إلى الغابة ليلاً، دون حساب المخاطر.، سترقص مع الشجر وإيروس في المخيِّلة، يتملاها عضوا عضوا، كما لو كان هو الشيطان الذي سكن خالة البدوي.
ارتبطت المدرِّسة الإسبانية بدمعة، حتى أضحت تنتظرها عند الخروج لتوصلها إلى بيتها. دعتها يوما للذهاب معها إلى شقتها، لكن تردد دمعة جعل المدرِّسة تتصل بأمها. لم تقل الأم أي شيء، كادت دمعة تطير فرحا، لأول مرة ستغيِّر فراشها، لأول مرة ستنام مع مدرستها. كان منزل المدرِّسة يغلي إغراء ؛ اللوحات التشكيلية المعلقة عند مدخل البيت تشد الناظر إليها بالتأمل، في الجهة الأخرى، كمان، وناي، وسكسفون، موضوعة بروعة عاشقة للجمال، أزالت المدرسة ملابسها أمام دمعة دون خجل، ارتدت روبا بنفسجيا، أشعلت المدفأة. تذكرت دمعة رقصة النار، عيناها مُسمَّرَتان قبالة النار وهي تلتهم الحطب. هيَّأت المدرسة شيئا يشبه الأكل؛ قنينة نبيذ على الطاولة بكأس واحدة، لم تسأل دمعة عن سبب ذلك، قالت المدرسة: حين تتخرجين من المدرسة ستفعلين ما تريدينه، أما اليوم، فلا يحق لك شرب النبيذ. كأن النبيذ يضيف للنار شعلتها. دمعة حائرة من كلام مدرستها. أزالت سروال الجينز، رمته على الكنبة، مثلما وضعت الجاكيت الجلدية السوداء على الكرسي الذي تجلس عليه. حدثت مدرستها عن البدوي ذي العينين الغامضتين، قالت لها هو لا يحب الموسيقى. وأشارت إليها بغمزة خاطفة كما طرطقة النار تماما. فتحت المدرسة محفظتها اليدوية، أهدتها سروالا لاصقا، وفانيلا تظهر أعماقها. أزالت تبانها، وارتدت السروال الجديد، كما لو كانت عارية تماما. أشعلت المدرسة المسجل، وبدأت دمعة ترقص رقصة النار، إلى حدود انطفاء نار المدفأة. سقطت أرضا، جمعتها المدرسة عضوا عضوا، قبلتها من فمها ورمتها في بيت النعاس.
____________
*قاص من المغرب
(العَلم).

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *