لطفية الدليمي*
شغفت بأعمال انيتا ديساي الروائية والقصصية ووجدت فيها ثراءً إنسانياً ورؤية ثاقبة لأوضاع النساء والرجال في مجتمعات العالم الثالث التي تعرضت للتمزق والتقسيم بعد نيل استقلالها عن سلطة المستعمر ونموذجها الهند، وما قدمته انيتا ديساي من كشف لصراع الثقافات في مجتمع متعدد الأعراق والأديان والطبقات، بخاصة في روايتها الكبيرة ( ضوء نهار مشرق ) التي قمت بترجمتها وصدرت عن (دار المدى) قبل شهور قليلة .
يندر في عالمنا ومجتمعاتنا المعاصرة أن يرث الأبناء موهبة الأبوين بخاصة في مجال الإبداع الأدبي ، فمعظم أبناء الروائيين والكتاب المعروفين يختارون مهنا لا علاقة لها بالمهن التي صنعت مجد أمهاتهم وآبائهم ، ولعل ذلك يعود إلى نوع من رفض غير واعٍ يتخذ شكل انتقام خفي من انشغال الأم أو الأب عنهم في بناء شخصيته الإبداعية وتعزيز مكانته في مهنته التي تتطلب مثابرة وتضحيات كبيرة بينما الأبناء يجتازون بساطة الطفولة إلى تعقيدات الصبا والمراهقة أو لعل نظرة الأجيال الجديدة إلى الإبداع والأدب قد اختلفت في عالم نفعي تنافسي يسعى إلى التربح السريع في عصر الاستهلاك المفرط وغالباً ما يحيد الأبناء عن مسار الأبوين فلا يشكل أحدهم امتداداً لموهبة أحد أبويه ، غير أن الروائية (كيران ديساي) شذت عن هذه القاعدة -الظاهرة لتواصل مسيرة أمها الروائية بقوة وبراعة أهلتها لنيل جائزة البوكر البريطانية في ثاني رواية لها بينما رشحت روايات والدتها للبوكر ثلاث مرات من دون أن تحقق الفوز على منافسيها.
اتجهت كيران ديساي إلى الأدب لعشقها روايات أمها انيتا ديساي وتأثرها بمسيرتها الأدبية ولطالما حلمت أن تحقق لنفسها بعضاً من مكانة أمها الأدبية وشهرتها وهي التي عاشت طفولتها ومراهقتها في الهند حتى سن الخامسة عشرة ثم قصدت بريطانيا للدراسة واختارت العيش في أميركا بعد إكمال دراستها. ورثت انيتا ديساي الأم تقاليد الرواية الهندية ما بعد الكولونيالية وتأثرت الى حد ما بنمط الرواية النفسية وكتبت من وجهة نظر نسويّة إلى عالم محتشد بالمواقف المضادة للنساء واحتفت بالتواصل الإنساني والعلاقات المتينة بين أجيال وثقافات مختلفة ، بينما اختارت كيران التصدي لفكرة الهجرة التي يحلم بها مواطنو العالم الثالث ففي روايتها (ميراث الخسارة ) تقدم مشهد التدافع المحموم للهنود باتجاه نافذة السفارة الأميركية التي تمنح التصريح لزيارة أميركا أرض الأحلام، ونرى الشخص الأقرب إلى النافذة هو الأكثر عنفاً وتدافعاً مع مواطنيه ليكون في أول الصف بينما ينظر إلى الموظف الأميركي باستخذاء ويتعامل مع مواطنيه باستعلاء زائف ويلخص هذا المشهد نقد كيران لأوهام الكثيرين عن الهجرة التي تقول عنها: (ليست الهجرة سوى خدعة كبيرة فنحن نتوهم أشياء وننتحل شخصيات جديدة في المهجر ويستلزم الأمر الكثير من الوقت للتحرر من كل ذلك) وقد صورت كيران ديساي مشاعر وحدة أبطالها وعزلتهم المريرة وعدم قبول المجتمع الجديد لهم بل واحتقارهم والهزء بهم عبر التعامل اليومي في بلاد المهجر وكشفت عن الجانب المظلم للعولمة التي سحقت ملايين من فقراء العالم الثالث في وهم الحلم الأميركي الذي خبرته كيران وهي تتنقل بين بريطانيا وأميركا والهند ولخصت في روايتها هذه علاقة الشرق بالغرب والخشية من فقدان الهوية وما ينتج عن هذا الصراع غير المتكافئ من مرارة نفسية لتقف هنا موقف والدتها من صراع الهويات والثقافات في الهند والمهجر مع اختلاف زاوية نظر الكاتبتين إلى الوقائع في أعمالهما الروائية لاختلاف الأجيال والمؤثرات.
* روائية من العراق تعيش في الأردن
( المدى )