ســليم باشي .. كتاب المحطّات / نصوص مترجمة



عبد الغني بومـعزة*

(ثقافات)

[ 1 ]
..إذا تغيّر قلب مدينة بسرعة قبل روح رجل فان روحي،اللامتغيّرة قد تزوّجت روح باريس،رغم إنني لم أولد في هذه المدينة،لكنني أشعر بأنني الرّجل الذّي تبنته على حافتها ورغم ذلك يجد متعته في هذا التّهميش،بالطبع لن نكون مألوفين في مدينة كما هو مع شخص ما نعرفه لذا أسافر لأحافظ على هذا الإغراء،باريس ليست الجّغرافيا،أظنها التّقدير،فضاء حسيّ يتمدّد عبر الوقت والزّمن،ينطبق الكلام تقريبا على روما،المشكلة مع هذه الأخيرة انها تعرض بدون خجل”جثّة جدّتها”حسب صيغة جويس،أما مع باريس فالعكس تماما،يجب الغوص في سراديبها لرسم خرائطها الخفيّة عن الأعين، بقاياها المجهولة،لم تطأ قدمي البتة ساحاتها،لذا سيقولون ما يرغبون في قوله لكن بالنّسبة لي باريس هي مدينة الحاضر المتمدّد في الماضي،انه ماض متشبث بسلاسة وحسّ مرهف في روايات بلزاك وهيغو كما هي خطوط المترو الشّبيهة بأدق تفاصيل فساتين الموضة التّي يشكلها الفنانون بأناملهم الرّقيقة و البديعة،مترو باريس كأنّه غزوة الأعماق،اكتشاف العالم والتّخلي عن الخصوصيّة،”فغرام” أو بئر خادم ليسا قصصا عن باريس،انه صدى العالم الذّي يدمدم في بطن المدينة،الكتاب الذّي يخرج رأسه محاولا اكتشاف العالم لا يفعل غير تدنيس ما يحيط به فيضمحل إلى ما يشبه المخطط ،هذا ما يحدث لي، بين مترو وآخر أجدني في حركات متشنّجة مع الوقت،سيفكر هكذا السّائح الذّي قطع مسافات مشيا في ردهات هذا الجّهاز الهضمي الذّي يضحي الجّغرافيا و كتاب تاريخ أو دليل النّاس ..
[ 2 ]
..حسب علمي لا وجود لمحطة بلزاك،حقيقة منسيّة عندما يكتشف المرء كم من شخصية أقل شأنا منه تركت بصمتها في باريس،يطرح السّؤال ان كان الكاتب الكبير الذّي كتب باريس في الخيال الإنساني كمهندس الأهرامات الخارقة من اجل الفرجة الزّمنيّة،لم يفعل هذا عن قصد،لم يرغب في مسح اسمه من الحجارة القديمة التّي تحمل علامته التّي لا تقبل التّغيير،في الحقيقة ننسى بسرعة أن باريس مجرد خيال قبل أن تكون جغرافيا،هل رأيتم؟، هيغو لديه محطته،بلزاك و” Eugène Sue“ليس لديهما شيء،هما الفنانان الحقيقيان لهذه التّحفة التّي نذرع أمكنتها جيئة وذهابا،بدونهما،لا وجود لمدينة الضّوء في حالة الحفظ التي نعرفها بها،من الممكن جدا أن النفس البشريّة العشوائيّة قامت بدكّ أساسات نوتردام وحولتها إلى محطة سيارات أو أن” La Sainte-Chapelle“لم تقاوم إغراءات أستاذ أدب اختزل التاريخ إلى كتاب،حقيقة باريس مشوّهة من هذا زولا المزدري ، في بعض الأحيان لا أحب المترو و لا اعرف لماذا،يبدو لي مثاليا جدّا،وكأنه يريد التّمدد إلى ابعد الحدود،هذا تصرّف خاطئ والمشكلة الكبيرة انه يحمل بداخله كلّ مآسي العالم ..
[ 3 ]
..لم الحق بالقطار فجلست انتظر،مسافرون آخرون مثلي ينتظرون،لا احد يشبه الآخر،المترو هو المكان الوحيد الذّي يمكنك رؤية ما تحتوي عليه الإنسانيّة من تنوّع عرقي،عجوز أسود يعبر المحطة،يرتدي معطفا رثا،يراقب باهتمام مبالغ أساسات الفولاذ التّي تحمل المحطة وترفعها للخارج، تنسحق الشّمس من خلف الزّجاج وتنغرس أشعتها بين الحزم الفولاذيّة فيرتد ضوءها على خطّ السّكّة،طفل شقيّ يقوم بحركات بهلوانيّة ملفتا نظر المسافرين، يطلب منه أحدهم الابتعاد،يصعد الرّصيف وقد غمرته سعادة طائشة،مازال العجوز الأسود يدور في المحطة وقد تشبّع بفكرة غريبة إلا وهي زواج الحديد بالفولاذ،القوّة بالاستمراريّة،انتشي أمام هذه التّحفة الفنيّة البارعة،يبدو لي أن العجوز الأسود يفكّر مثلي,منبهر،يدنو مني رجل و يجلس بجانبي،أكاد أقول إنني اعرفه،رايته من قبل،يشبهني كثيرا مثل أخ،آه،كتاب المحطات،كتاب المحطات الكبير،من يتكلم؟،أنا أم هو؟،الصّوت يتكلم،يستمر في الحديث معي،يحدث لي هذا ساعات النّهار الموقظ،لكلّ محطة حكاية،فظاءاتها ومساحاتها،لا نهائيّة الأنواع،السّفر عبر الزّمن،الرّكض طولا وعرضا في البراري الرّوسية،الولوج المغامر في الغابات الاستوائيّة،خوض معركة اوسترلتز،الذّهاب من روما إلى” Bicêtre“على خطى راينر ماريا ريلكه،يا للرّوعة لو يصبح مخطط المترو المدروس بطريقة جيّدة إلى وثيقة تاريخيّة،انه هناك،مازال على حاله، العجوز قد يكون محاسب أو ماسح أراضي،يقيس بطريقته الخاصة المكان،كيف؟،لا اعرف،يتأمّل بعين بصيرة عرق ودمّ الأموات الذّين شيّدوا أو شاركوا في إعداد كتاب المحطات،هل تفهم؟،لا،الأمر بسيط جدّا،ما يثيرك في كلّ هذا حقيقة أخرى خلف الصّورة,المشهد،نتاج للعبوديّة،إنذار وشكاوي الشّعوب الأخرى،ثرواتهم التّي نهبت وحوّلت إلى حديد،كيمائييهم هم الأكثر شهرة وعلما،هم اليوم يجعلوننا ندفع ثمن كوننا ان حضارتنا نتاج نظام عبوديّة،يبدو لي هذا مقنعا،لذا يقطع العجوز الرّصيف جيئة وذهابا،فهمت الآن لماذا هو قابض على السنة القلق والاضطراب،تصل العربة الجّديدة،تقف،يتدفق المسافرون نحو الأبواب المعدنيّة،ثمّ ينطلق القطار كحصان عجوز نحو الوجهات المختلفة،بطيئة ومتغيّرة المناظر الحضريّة خلف الزّجاج،يمتزج الأزرق بالرّمادي،تبدأ تلال السّقوف في الرّقص،انه رقص مخمور حول كتاب المحطات ..
[ 4 ]
. .باريس،أمكنة للكتابة والعبور:وصلت الى باريس،كنت شابا ساذجا لكن صدقا كنت أفكّر انه لتكتب يجب أن تعيش الحياة،يبدو لي انني عشت أكثر من سني وأكثر من العادي،عبرت حدود الحرب،شاهد عيان على بربريّة الرّجال،أن تحبّ بجنون أبطال النّخوة العربيّة،مثل قيس وليلى،أظن انني كنت احرق دون وعي مني أوهامي الأخيرة كما أحرقت فيما مضى صوري القديمة المصفّرة تحت شمس الذّاكرة،اعرف إنني كنت أعيش في منفى الأرض،لم اعد قادرا على كتابة الأشعار الجّميلة،لكن بالمقابل كنت اكتب كثيرا في غرفتي،قريب جدّا من”بولفارد مونبرناس”،على بعد كيلومترات من شارع” Notre-Dame-des-Champ“حيث كانت تتجوّل في ما مضى راينر ماريا ريلكه،خطوتين فقط من شارع” Campagne première،هناك التحق اراغون الكبير بصديقته الزا في فندق صغير نسيت اسمه،قضيت سنة كاملة في كتابة قصص قصيرة،في القراءة،في الشّعور بالرّتابة والضّجر،عدت للجزائر،مرّة أخرى أجدني في غرفتي،أمام آلة كتابة اوليفيتي عتيقة،أدور كأسد بدون أنياب،كذبابة في غرفة مغلقة،اضرب راسي على زجاج النّافذة،المح السّماء الزّرقاء،هناك،بعيدا،قريبا،السّحب عابرة مكان و زمن،انها السّحب الرّائعة!،أعود أدراجي إلى باريس،الحيّ الجّامعي،شارع”دارو”،تسعة أمتار مربّعة، الزّنزانة،في شهر واحد كتبت ويا للرّوعة مسوّدة مخطوطي الأوّل”كلاب عولس”،في الشّهر التالي انتقلت إلى شارع جوردان، تخلصت من تسعة أمتار مقابل خمسة عشرة متر مربع،كتبت بين خمسة أو ستة فصول كاملة من كتابي وهذا لمدّة سنتين كاملتين، مرّة أخرى غيرت محلّ إقامتي من الحيّ”U ” إلى شارع” des Rigoles“،أستوديو صغير،وضعت رتوشاتي الأخيرة على مخطوطي،هذه المرّة أنا في شقّة جديدة قريبة من قناة”سان مارتين”في غرفتي دائما ودوما،اكتب واكتب،لا أتوقّف،يا للهوس،ثلاثة كتب أخرى،أظن إنني أرهقت المكان والكائنات الخفيّة التّي تسكن راسي،يجب عليّ أن أبدا من جديد،أسافر مثل فريدريك مورو،روما ستكون وجهتي الجّديدة،على مرتفع”le Pincio “،غرفة واسعة،توجد بها”ميزازين/طابق خشبيّ كبير تتوفّر عليه بعض الشّقق”،مطبخ وحمام كبير[كابوس أيّ كاتب]،اكتب على شاكلة المدّ والجّزر،اليوم و أنا في ايرلندا اكتب لكم لأقول لكم مرّة أخرى بان مدينة الضّوء تعبر الزّمن وتبصم حياة المسافرين إليها حتى يحلموا بالسّحب الرّائعة ..
[ 5 ]
..العالم يقرا أو انه سيقرأ بان باريس هي حفلة همنغواي،إذا لماذا التّحدّث عن هذا؟،لا اعرف،ربما هي رغبة مني مشاركة متعة القراءة،هناك كتب لا تشبع نهمك لأنها لا تنضب من السّحر وأيضا لما تحتويه من أشعار الحزن والألم،في اليوم الموالي لاندلاع الحرب العالميّة الأولى،كان بإمكان أي شخص حالم الالتقاء في باريس بفنانين عالميين مشهورين،بيكاسو،ستاين،عزرا بوند و…،هذا محفز وغريب ويستحق السّؤال انه لا يجد صعوبة في الجّلوس معهم،الاستماع لهم،مشاركتهم الأفكار والأحلام والآلام،يعتبر هذا بمثابة معجزة أن يجد نفسه في حضرة العمالقة بعكس اليوم، حاضر الحذر والضّغينة و التّكبّر والانغلاق،نستطيع الكتابة و السّكن فقط إذا قبلنا بالتّضحية بوجبتين في الأسبوع،تخيّلوا وانتم بمعية”Sylvia Beach و Adrienne Monnier ” في شارع”الاوديون”،يتحدثّان معك مطوّلا عن الأدب والسّينما والمسرح ثمّ فجأة وبحسن نيّة صديقة يعيرونك كتبهم والأجمل في كلّ هذا يدعونك للقاء الكبير جيمس جويس،هل تعرفون من هو جويس؟، انه صاحب رائعة ” Finnegans Wake. “، كلّ هذا حدث أو حتما سيحدث لكم لو عشتم في باريس الزّمن العتيق والجّميل،اليوم،لا يحدث شيء، لنعد إلى البارحة الذّي أحدّثكم عنه بحماسة لا تقهر،ستقرأ همنغواي،يا الهي ستشعر بالرّهبة،بسرطان الإغماء،باريس في ذلك الوقت كانت حفلة كبيرة،بعيدة ومجانيّة،اليوم كأنها كوكب مهجور من طاقات الحياة منبعثة منها اوكسيد كاربون قاتل،هل هو إعلان موتها؟،لا أتكلّم عن المدينة كحالة فيزيائيّة،مملة،مضجرة رغم عظمة هندستها العمرانيّة التّي تأسر العيون،ليست المشكلة إنني أحدّثكم عن الأمر من مبدأ مادي بحت،لكن البعد الرّوحي لمدينة متراميّة الأطراف كحلم حمل عبأه أجيال من الفنانين ، أظنها المشكلة التّي تؤرقني ..
[ 6 ]
..باريس حلم شاسع الأطراف في مخيلتي،كأنها الحياة،لا تنسوا هذا،انها حلم روائي يتفكّك يوميا مع موت التّوقعات،في أيامنا هذه،لم نعد نحيا في باريس، لا بقاء لنا فيها،الفنان يرحل إلى برلين حيث يسكن ويعيش مع فنّه،يعيش باحتشام،يلخبط على سجيته في استوديوهات كبيرة معالم فنّه،أمّا باريس فهي مدينة فخورة بنفسها،غنيّة، مليئة بالمسارح،هي مدينة مهدّدة أكثر من أي وقت آخر،مهدّدة في ماضيها،مثل البندقية،رغم انه يبدو لي بان الحلم يصعب الإمساك أو التّلاعب به،باريس الفنانين هي وهم الحاضر، بورجوازيون وسلالتهم المغرورة اكتسحوا الأماكن حيث لا مكان للغرباء والمذنبين في انتمائهم لمدينة الضّوء،في مونتمارتر،،تحوّلت الورشات إلى شقق لبرجوازية أميّين،لم يعد احد يقرا،لا احد يحبّ الأشياء التّي يتعلّق بها القلب،يشترون ممتلكات يعتقدون انها تمتلك للأبد لكن هذا خطأ،نشرب،نرقص،لكن القلب في مكان آخر، آه،الحياة الباريسيّة مجرّد عنوان مجلة ايروتيكية، مزدانة بصور بالأبيض والأسود،نساء عاريات،ضبابيات وجامحات،نلقي بها في المجاري دون تفكير،صورة نمطيّة تغري السّائحين القادمين من أمريكا وايطاليا و ألمانيا،باريس السّاحرة بين الحربين،في بداية القرن الماضي،مولين روج، le Moulin de la Galette.، أشاهد،أندهش،أفيشات”لوتريك”،نهم في الحضيض،السفلس،انها حالات وبائية تلك التّي تنتابني في لحظتي هذه،تفقد أسنانها و شعرها،باريس تعالج بالزّئبق يعني شيء واحد إلا وهو انه اضمحلال ماضيها التّليد ، بؤس أن تزور خليلتك وأنت تدرك تماما انها لم تعد تثر نزواتك الجّنسية الجّامحة ..
.[ 7]
..لقد طردوا السّحرة من مونتمارتر وباعوا الممرّ بين جونو وشارع” Lepic” حيث توجد الصّخرة القديمة على شكل شجرة محروقة بضربة رعد و التّي ترسم حدود أرض القرية المسحورة،هناك أرواح الفنانين متجذرة في الأغصان وكأنها فراشات صغيرة بيضاء،طردنا الفقراء ليخلو المكان للأغنياء، الآن،انهم وجها لوجه،حالة تشبه كثيرا الخروج عن القانون،صدام الطبقات،من سيلومهم؟،شعب الحواجز،انهم يجعلون من المدينة علامة تجارية خاصة بهم،بالأغنياء،اوجدوا ديزني لاند حيث يلقى أطفالهم بقطعة نقدية لإشعال ضوء المصابيح،يبدو انهم لا يرغبون في تذكّر الملعون”سلين”،سلين شبح يسكن شارع” Lepic“،هناك يوجد بيت أصبح محلا لدمى ألمانية من اجل عيون السّائحين، ورشة بيكاسو، ساحة”رافينيان” التّي كانت تأوي ذاكرة حبّ محاسبة ومنتج أفلام،عيادة الطبيب”بلانش”تفتح أبوابها من جديد،انهم يعالجون المصابين باحتباس الذّاكرة و عقم المخيّلة،بالطبع لا يملكون عبقرية نرفال،انهم يعكسون بطريقة مثيرة للشّفقة عدمية كلّ الأوقات،لنعبّر عن الحياة يجب أن نمسك بها دون مزايدة أو متاجرة بالقيم والجّمال،الأفضل آن تكون خطواتنا الأولى من ناحية السّيد الفن،لكن،هل يمكن أن تحدث معجزة ويتغيّر كلّ شيء؟،لا أظن،لا يمكن أن نفعل أيّ شيء أو نصلح الأمور كما نريد عندما نخوض في الوحل ونتعثر .. 
[ 8 ]
.. قيل لكوكتو في احد الأيام ماذا سيأخذ معه لو احترق بيته ، أجاب..” النّار !..”.. رجاء غادروا باريس ولا تنسوا النّار ..
[9 ]
..جزائريّ،قدّر لي أن أحيا هنا،ندمت كثيرا وأنا أجول على ضفاف نهر السين،في الأسفل القوا بأربعمائة جزائري،هم بنو جلدتي ولا أنكر هذا،ذنبهم الوحيد انهم طلبوا حقا تاريخيّا إلا وهو الاستقلال،اليوم،أتعايش مع المعقد لأن في العادة الألم يسبق الفرح،لا لندن ولا نيويورك التّفاحة يحبّانني كما تحبّني باريس والتّي اعتبرها جزء لا يتجزأ مني،اعرف إنني ابن شعب لا تخطاه أطياف الماضي عندما يتعلق الأمر بمعضلة التّاريخ،لا اعرف لكن يلازمني شعور غريب بأنني غريب هنا،لكن،هل قلت غريب؟،أنا هنا كما أنا هناك،هناك أيضا كنت غريبا،لا انتظر كثيرا من هذه المدينة التّي لم تعطيني الكثير،لا ننسى أن بلزاك هو اكبر متلاعب بالكلمات ولا يضاهيه في هذا حتّى فلوبير،متوهّم من يقول انه يقرا بين السّطور وهو يقرا رواياته،التّحذير واضح لكن،هل تعرفون؟،لا يهم،المقابر الباريسيّة هي غزوة الطموحين الوحيدة والمدن الكبيرة هي أمم تغرق البشر كانوا رجال أو نساء في متاهاتها، النّوع البشري لا يعيش ولا يخلد في الذّاكرة الإنسانيّة إلا إذا استطاع نقش اسمه في اشتقاقات المعرفة والفن،ماعدا ذلك هو كذب وسراب،حتى”فريدريك مورو”عازف الكمان الرّقيق يجد نفسه أكثر عزلة في باريس التّي احتفى بها في مقطوعاته،باريس التّي تسحقه تحت وطأة ظلالها الكئيبة،من عادة فلوبير رسم مدينته ليلا،هي مدينة مهدّدة،مظلمة،تتلحّف السّواد الذّي يليق بها مع شكوك الحقبة،اعرف جيدا اننا نحظر لمجزرة كبيرة ستشهد موت أوهام البعض كالذي حدث مع المعدومين رميا بالرّصاص ذات سنة 1848 ،اذا، وباريس في كلّ هذا،ديكور تراجيدي،ملهاة يونانيّة غير مباليّة بالشّعور الإنساني الخائف والمضطرب،يا للفاجعة أنه القمع والوحشيّة،انه تشكل غريب لمعالم اوبريت حيث يبدع فلوبير تفاصيلها الدّافعة للتّأمل و البحث في رعشات الذّاكرة عن الأشياء الجّميلة،تلك التي تصلح للأيام الصّعبة،ثمّ يسدل السّتار عند أقاصي رحلة إلى باريس المتمنّعة،حقيقة انتهى كلّ شيء،لم نعد نقدر على مقاومة هذا الهذيان الصّاخب والمملّ.. 
[ 10 ]
..برج إيفل،الرّاعية الطيبة التّي تحرس بعين حنونة قطيعها من أعلى قمّة العزلات،القرن يتقدّم ببطء،يخترق سحب القرن العشرين القابع بعناد وجمود و يعلن بصوت المنتصر عن ميلاد العصور الحديثة والتّي بدورها ستختفي يوما ما،تتفكك،تتلحّف الغرائبي وتتبخّر في الأبدي المجهول..،أما الشّعر فهو شيء آخر،لا ينقرض،يعطي انطباع بالكرامة،بان الجّمال لم يتخلى عن ميثاق شرف الأمكنة والأزمنة العتيقة،من شتى البقاع والأصقاع يهرول هؤلاء المعجبون،المهاجرون الذين استوطنوا أوطانا بعيدة كالأرجنتين لكنّهم يحنّون كثيرا للجذور،انهم هنا، فوق رصيف محطة”سانت لازار”،مكدّسين مع حقائب أسفارهم،نمشي في الطرقات النّظيفة،نجلس في المقاهي،نختار الشّرفات التي تطل على السّاحات والميادين،مقاه،بيسترو وحانات،وفي كلّ هذا نعثر على الحبّ ولا نخطئه،تتجمّد باريس في هذه اللّحظة من تاريخها،هذه المرّة سيصدق حدس السّائحين ولو مرّة واحدة،لماذا؟،سيسلكون طريقا تاريخيّا نحو مونمارتر في اثر بيكاسو،موغدلياني وفان دونجن،مخلفين وراءهم “ Sacré-Cœur“،كنيسة الظلام والحميميّة تنبض بالحياة والمقاومة ،متخمة هي الأمكنة القدّيسة بدمّ الصّمت والشّغف،تلتقط الصّور في الرّأس المهووسة بالرّحلات والأسفار ثمّ ستمحى،لكن ربما” Amélie Poulain” تعيد لها الحياة من جديد،هل تعرفون؟،نجاح الفيلم الغبيّ الذّي مثلت فيه لم يكن بريئا،لكن ستبقى باريس 1900 هي الخالدة في المخيّلة العالميّة،البارحة واليوم وغدا،ورغم ذلك لن تتألّق باريس كما في السّابق،حتى لو رفع بيكاسو تنورة الحلم الشّفاف وكشف عن أمراض تنخر الجّمال المريض،في ذلك الوقت ولا احد كان يرغب في مشاهدة القبح،ببساطة كانت البشاعة توأم القبح تنسلّ خلسة لان الجّميع كان يدرك أن ما يحدث هو الخديعة ..
[ 11 ]
..قالوا لي،الإنارة العمومية الأكثر لفتا للانتباه في العالم متاحة في مصر فقط، في باريس يكون الأمر نادرا، لماذا؟،الفوانيس الأخيرة تنطفئ ..
,
*****
من هو الروائي سليم باشي ؟ :
سليم باشي روائي جزائري من مواليد 1971 بالعاصمة ، كبر في مدينة عنابة شرق الجزائر ، بعد سنة قضاها في باريس سنة 1995 انتقل للعيش في ايطاليا لاكمال دراسته في ” الاكاديمية الفرنسية ” في روما سنة 2005 ، اليوم يعيش سليم باشي في باريس .
اصدر سنة 2001 روايته الاولى كلب عولس عن دار غاليمارد وفازت بجائزة ((prix Goncourt du premier roman. )) ..
يعد سليم باشي من الأقلام الجزائرية التي فرضت نفسها منذ مطلع الألفين، حائز على جوائز هامة في فرنسا، على غرار غونكور. وعن بدايته يقول: ”كان طموحي تقديم رواية تشبه رواية فولكنر، وكان ذلك في عملي الأول ”كلب أوليس” سنة .”2001 لكنه مع مرور التجارب، تيقن أن: ”كتابة الرواية لا تعني الامتثال لدفتر شروط يتوافق مع ما أنجز من قبل” بقدر ما هي صياغة ”اللامنتظر واللامتوقع” على أساس أنه الأصل في أي عمل روائي. من هذه الفكرة يحدد باشي، ابن عنابة، مفهومه للمغامرة في الأدب: ”الكتابة في حد ذاتها مغامرة لا نعرف أين تأخذنا الفكرة..” فباشي عندما يكتب لا يعرف أين سيصل قلمه، لهذا يقترح على القارئ ”اتباع مسار الشخصية تماما كما اتبعها الروائي”، ليبين لاحقا أن نجاح القارئ في تقصي النقاط المظلمة والمنيرة في روايته، هو دليل على نجاح الكاتب في خوض المغامرة. المغامرة الأخرى التي خاضها المؤلف الجزائري المغترب، كانت في ”اقتلوهم جميعا”، النص الذي كتب عقب ”الكاهنة” (غاليمار 2003)، وكان رهان صاحبه تأليف نص مختلف عن سابقه: ”لم أشعر أنني خنت نفسي في ”اقتلوهم جميعا” )2006(، رغم أني لبست جلدة الإرهابي، بقدر ما اشتغلت على الريتم الذي طبع اللحظات الأخيرة قبل تنفيذ الهجوم”. فباشي باستعانته بشخصيات واقعية، مثل خالد كلكال ، يرى أن الأدب لا تفصله حدود عن الصحافة أو علم الاجتماع أو الرياضة .. ))
المصدر :
Salim Bachi, Nrf, mai 2011.
Paris, article paru dans la NRF du mois de mai 2011
28 juin 2011 par Le Blog de Salim Bachi
اعماله الروائية :
:
1 / Chien d’Ulysse’ 2001 (( الجوائز الفائز بها ، Prix de la Vocation / Goncourt du Premier roman /
Bourse de la découverte Prince Pierre de Monaco..
2 / الكاهنة 2003 ، (( جائزة Tropiques 2004.))
3 / ‘Autoportrait avec Grenade’. مجموعة قصصية ،2005 .
4 / اقتلوهم جميعا 2006 .
5 / Les douze contes de minuit‘ مجموعة قصصية، 2006 .
6 / صمت محمد / Le silence de Mahomet 2008.
7 / حب ومغامرات السندباد البرحي / Amours et aventures de Sindbad le Marin ، ‘ 2010.
8 / انا ، خالد كلكال ، سنة 2012 .
________________
* *عبد الغني بو معزة / روائي ومترجم من الجزائر.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *