هالة صلاح الدين:«البوتقة» بوابة القصة القصيرة الأمريكية




*

المشاريع الكبرى تبدأ صغيرة وتكبر بإرادة وطموح أصحابها. واجهت المترجمة المصرية هالة صلاح الدين تحدياً كبيراً حين استمالتها القصة القصيرة الأمريكية لتترجمها إلى العربية. برغم الصعوبات الجمة لنشرها ورقياً في مجلات ثقافية تستكثر عدد كلماتها دون قيمتها! لم يمنعها من الاستمرار كما لم يعجزها أن توجد لترجماتها موقعاً إلكترونياً تحول إلى مجلة فصلية باسم”البوتقة” انطلقت منذ 2006 لتقدم أكثر من 30 عدداً و3 كتب صدرت عن دار نشأت باسم المجلة نفسها.
تحدثنا المترجمة عن التجربة والتحديات والمستقبل..
* أرى أن الترجمة تتيح للمترجم التعمق في لغته الأصلية أكثر من المنقول منها. ما رأيك؟
– لا قياس محدد في الحقيقة فيما يخص هذا الأمر. أظنها تسلط ضوءاً أشد على اللغة الأقل جودة عند المترجم. عن نفسي أظنه كان أمراً أشبه بميزان متعادل، كلما رجحت كفة لغة لحقتها الأخرى، وكل نص تختلف تجربة الاستفادة منه كلية عن الآخر.
* استفادت المؤسسات البديلة سواء الثقافية والإعلامية والسياسية والاجتماعية من وسائل التواصل غير المشروطة كالمدونات والصفحات والمنتديات والفيسبوك وتويتر. إلى أي حد يمكن قياس درجة التلقي والمتابعة من واقع تجربتك ؟
– كل كلمة كتبها قارئ عبر هذه المنافذ الإلكترونية دفعة وتشجيع لي. أجيب على كل إيميل يرد إليّ بنفسي وكل تعليق على مجموعة المجلة على الفيبسوك. تصلني أيضاً ردود أفعالهم على كل عدد، فأعلم أي القصص التي نالت استحسانهم بين القصص المنشورة. الحق أن التواصل الإلكتروني – عبر الإيميل أو الفيبسوك – أتاح لي وللقراء فرصة مدهشة للتعارف. نادراً ما أظهر إعلامياً أو أحضر الندوات العامة، وأظن أن القراء حسبوني أكبر سناً أو صاحبة خبرة أطول في الترجمة. ليس من السهل إطلاق مجلة غير ربحية ومواصلة العمل سنوات طويلة بدون أن تنال حافزاً مباشراً يحملك على الاجتهاد، وأحد هذه الحوافز هي التماس المباشر مع القراء عبر الفيبسوك. هو إحساس حميم مختلف ولا شك بيني وبين القراء.
* ما الذي يمكن أن يكون حافزاً لتأسيس مجلة إلكترونية متخصصة بجنس أدبي وترجمته عن لغته الأصلية إلى العربية؟
– الواقع أتت فكرة البوتقة بمجرد أن طالعت مقالاً وجيزاً بقلم الدكتور يوسف زيدان تناول فيه يسر النشر الإلكتروني ورحابته. كنت عندها قد ترجمت عدة قصص أمريكية معاصرة وفشلت في نشرها. ربما تلاحظ أن القصة الأمريكية المعاصرة تتصف بالطول النسبي، قلما تقل قصة من قصص البوتقة عن 5000 كلمة بما لا يسع النشر الورقي في الدوريات. لا أعلم ما جال في ذهني وقتها غير مواصلة الترجمة، بدون تفكير في مصير القصص. لم تكن لديّ أدنى فكرة عن مآلها ولم أحمل أجندة لمستقبلها، أو بالأحرى، تركتها لتتكفل بنفسها. وعندما طالعت مقالة الدكتور يوسف، لم أطل التفكير قبل أن أشرع في مشروع مجلة مخصصة في ترجمة القصة الأمريكية المعاصرة بعد أن وجدت أن حركة الترجمة في الوطن العربي تتجاهل عن قصد أو عن غفلة التعامل مع الأدب الأمريكي المعاصر. أقدمت على المشروع في يناير 2006، ونشرت أول عدد من أعداد المجلة في إبريل 2006. تواصلت المجلة بصورة شهرية ثم تحولت إلى مجلة فصلية بدءاً من يوليو 2007. أخفقت في البداية كثيراً ونجحت قليلاً لكني أنشأت في النهاية موقعاً بسيطاً خليقاً بجو الكتب والإبداع. لم يرنو مشروعي إلى المستقبل البعيد في لحظة إطلاقه لكنه تدرج بطيئاً حتى صار الآن بوابة للقصة القصيرة الأمريكية. ورغم قلة عدد القصص المنشورة مع كل عدد، تكدست الأعداد وأصبحت في المجمل تعريفاً جديراً بالقص الإنجليزي المعاصر.
* كيف يمكن أن تصفي أبرز ملامح القصة القصيرة الانجليزية ؟
– فلنتحدث عن القصة القصيرة المعاصرة “الجيدة” والتي تمثلها مجلة البوتقة خير تمثيل. أصدرت مجلة البوتقة حتى هذا التاريخ سبعاً وسبعين سيرة وتسعاً وثمانين قصة مترجمة، كلها متاحة على الإنترنت عدا تلك التي انتهى الحق في نشرها إلكترونياً. ورغم أني انتقيتُ القصة تِلْو الأخرى بلا أي تفكير في تأثيرِها الكلي أو علاقة الواحدة بالأخريات، تبلورتْ قصص مجلة البوتقة لتعكس التركيبة السكانية المتطورة للمجتمع الأدبي الأمريكي. لقد نشرت البوتقة أعمالاً لأسماء لامعة في المشهد الأدبي الأمريكي، لا تعبيراً عن تلك القارة وحدِها، بل تعبير عن اليابان والهند والصين والبوسنة وهاييتي وأيرلندا وإنجلترا لتسلط القصص الضوء على أوطان خلفها المهاجرون بحثاً عن حياة أفضل، أسوأ.. أحياناً ما يجهلون هم أنفسهم الهدف. بل إن الأمريكية مارلين كريسل كتبت واحدة من أجمل القصص عن معاناة امرأة وأم في الحرب الأهلية بسريلانكا. كذلك حاكت إديث بيرلمان قصتها “الألوج” في إسرائيل. واختار الأمريكي جيس رو هونج كونج مكاناً لإحدى قصصه. كذلك كانت المغرب مسرحاً لقصة “حادث بعيد” بقلم بول بولز المفزع. وبالطبع لم أُقَصِّر في إدماج كتابات إدوارد بي. جونز أو بيرسيفال إفيريت، الأمريكيين من أصل أفريقي أو أدب نسجه مبدعون انحدروا من سكان أمريكا الأصليين كشيرمان أليكسي ولويز إردريك. لقد جذبت القصة القصيرة المهاجرين في أمريكا ممن استخدموا هذا الجنس الأدبي لطرح مدى واسع من الجغرافيا والثقافة. وفي مجال الأسلوب وتقنية السرد غطت ما يمكن تسميتُه بما بعد فرويد أو القصة السيكولوجية، وقصص الفانتازيا والخيال، وقصص الواقعية السحرية، وقصص الأبعاد اللغوية التي تُعبر عن نفسِها بالحضور المادي الواضح للغة. لا تزال تلك الأصوات المهاجرة منهمكة في بناء مشروعِها القصصي، تحصد الجوائز وتستقطب اهتمام النقاد وتحجز الأماكن في المختارات القصصية والدراسات والموسوعات. سوف يتبين القارئ في مجلة البوتقة عالمية الضمير الأدبي. سوف يجد أيضاً دليلاً على ما منحه انصهار المهاجرين للأمة الأمريكية من طاقات نابضة بالنشاط والحياة. ولا شك أن هناك كُتاباً مشهورين يواصلون مسيرتَهم الإبداعية لطرح فن قصصي رفيع المستوى يناقش قضايا الإنسان والمجتمع وقيم الحرية والاغتراب والهجرة والتكنولوجيا والحرب والأزمات النفسية. وهكذا تحرص المجلة على إبراز عالَم مفتوح الجنبات من بين هذه القصص الألمعية، وليس صفحة واحدة فقط من صفحات الحياة الأمريكية، لتؤكد على إنسانية الأدب وتكْشف الوجه الحقيقي لثقافة ثرية ثراءً مكَّنها من استيعاب كل هذه الخلفيات العِرقية من خلال الأدب، وعليه أصبحت المجلة نافذة متكاملة لا بديل عنها تُطِل على فن القصة المعاصر. وأنا لا أعني هنا الإيحاء بتماثل نبرات كل القصص وأمزجتِها وحالاتِها. فمواقف الفكاهة والدهشة والسكينة والرعب والحزن والرواقية والحب تلوح من بين هذه الصفحات الإلكترونية. تطرح المجلة الحكايات الرمزية كما تكرر بعض القصص أصداء واقعية مباشِرة تتخلل الفقرات الأولى. ولكن قبل كل شيء سوف يستشعر القارئ الحياة المحسوسة يعطيها القاص الموهوب.. الذي يرسل على الدوام صَّوتين في العالَم المتوحد، صَّوت الشخصية وصَّوت الكاتب.
* ما مدى تجاوب المشهد الثقافي عبر فضاء الشبكة الإلكترونية لمجلة البوتقة؟
– الحق أن التجاوب تجلى في صورة تطوع بالمشاركة. دعني أؤكد أولاً أن باب المساهمات مفتوح لاستقبال أعمال المترجمين العرب، ويشرف المجلة أن تكافئ هؤلاء المترجمون على مجهودهم، ومع ذلك فعدد المساهمات الواردة حتى اللحظة الحالية هزيل مقارنةً بمن أرسل لي خطاباً أو هاتفني كي يتقدم بدعم مادي للمجلة. الحق أن المجلة لا تَقبل دعماً من الأفراد على الإطلاق. كذلك لم يخل بريد المجلة من متطوعين كرماء للعمل معي بدون مقابل، وهو أمر غير مقبول هو الآخر؛ أو مترجمين يطلبون مني اختيار نصوص كي يعكفوا على ترجمتها، وهو أمر مرفوض قلباً وقالباً من ناحيتي. لن أتعامل البتة مع الزملاء المترجمين بمنطق الموظفين! على المترجم الجاد الموهوب اختيار نص يتذوقه هو أدبياً ويجده جديراً بتقديمه إلى القارئ العربي. أمَّا الانقياد إلى ذائقة الآخرين فهو أمر أعتقد أنه ينال من احترام المترجم عمله ويحوله إلى موظف.
* حققت منذ عام 2006 أكثر من 30 عدداً حتى 2012. إلام تطمحين بعد هذا؟
أرغب في تخصيص سنة كاملة للأصوات الشابة من أمريكا اللاتينية التي تكتب بالإنجليزية أو كتاب التسعينيات الأمريكيين أو الكتابة النسوية (تجاوزاً) أو غيره من المواضيع المحبوكة، ولكني عبدة حتى الآن لحقوق الترجمة والنشر. القصة التي يوافق عليها حملة الحقوق أترجمها وأدفعها إلى مكانها في العدد التالي. بودي أيضاً أن تكون لديّ ميزانية محترمة أتمكن من خلالها من دفع مبالغ جيدة للمؤلفين الأجانب. قد يعتقد القارئ العربي أن البوتقة جهد فرد واحد وحيد إلا أن كل المؤلفين المترجمة أعمالهم ساهموا في المجلة، بموهبتهم وبتخليهم عن الكثير من حقوقهم المادية دعماً لهذا المشروع.
* انتقلت نحو نتيجة مفترضة بتكريس عمل المجلة إلى دار نشر فأصدرت أكثر من مختارات في عناوين جميلة”حواس مرهفة 2010، أشباح بلا خرائط 2011، وجوه متوارية 2011″ كيف تصفين تجربة البداية إلكترونية ووصولها إلى الورقية ؟
– هي في حساباتي المحدودة ليست “مفترضة” على الإطلاق. فلولا منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون ما كان قد خطر في بالي النشر الورقي على الإطلاق. لا بد أن أعترف أن النشر الورقي محبط كل الإحباط. دعني أشرح لك: الوقت الفارق بين قراءة قصة رائعة ووصولها إلى القارئ في أستراليا عبر النشر الإلكتروني قد يكون من شهر إلى شهرين مثلاً وفقاً لحقوق الترجمة والنشر. القوت الفارق بين قراءة قصة جيدة والحصول على حق نشرها ثم ترجمتها وطباعتها (جودة الكتاب كمنتج ورقي يحددها العلي القدير!) ووصولها إلى الإسكندرية قد تصل إلى 10 شهور كاملة أو أكثر. فارق أي فارق بين صفحة بيضاء ناصعة وكلمات لا تشوبها شائبة على شاشة تصل على العالم بأسره، بل ويمكن تحريرها في أي وقت لتظهر بصورة مخالفة في ثانية واحدة، وورقة مطبوعة مكبوحة مادياً لا سبيل إلى تغييرها قد تنتقل بسرعة السلحفاة إلى مدينة أخرى! هكذا أشعر بالنقلة، ويسعدني كل السعادة أني بدأت إلكترونية وسأواصل إلكترونية متخطية مشاكل النشر الورقي وبيروقراطية دور النشر ومشاكل الرقابة والتوزيع.
* هل تواجه إصدارات البوتقة أزمة التوزيع والتسويق. كيف يحل ذلك؟
– الأزمة بالطبع قائمة وتعاني منها جميع دور النشر في الحقيقة، وكما ذكرت هي أزمة مادة لا تنتقل عبر الأثير! لا يشغلني التوزيع في الحقيقة، وربما يبدو كلامي متعالياً مترفعاً وغير واقعي بالمرة بالنسبة لصاحبة دار نشر، ولكن بطء الحركة الطبيعية للتوزيع يتطلب جلداً وصبراً لا قبل لي بهما. في الغالب أترك الأمر للموزعين المتخصصين من الزملاء، ولا أسأل عن العوائد إلا حين يحل وقت الإقرار الضريبي!
* ما رأيك بمشاريع الترجمة المتخصصة مثل المنظمة العربية للترجمة في بيروت أو العامة مثل المركز القومي للترجمة في القاهرة أو مشروع كلمة في أبو ظبي؟
– اسمح لي ألا أعلق بالتفصيل على مشاريع الترجمة الأخرى، فبالرغم مما يُرصد لها من ميزانيات هائلة، فإنتاجها في المجمل مخيب للآمال. أضمر في الواقع الكثير من الإعجاب لجهود دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة في ترجمة الأدب العربي المعاصر.
*ما مشاريع البوتقة القادمة؟
– نشرت للتو العدد الثالث والثلاثين من مجلة البوتقة كجزء من مشروع يضم المجلة والمجلس الثقافي البريطاني في القاهرة بهدف نشر تراجم عربية لقصص بأقلام كتاب من إنجلترا وأيرلندا. تكرم مبدعو العدد بمنح البوتقة الحق في ترجمة نصوصهم ونشرها. ومن المتوقع أن يتضمن العدد القادم من المجلة قصة “التعدي” للروائية البريطانية مارجريت درابِل وقصة “الابتعاد” للقاص الأيرلندي فيليب أو كالا وقصة “فتيات الريش” للقاصة البريطانية كلير ميسي.
أخطط أيضاً للاندماج مع دار ميرا البريطانية للنشر (http://intelligentread.com/) في إطار مشاريع الترجمة، من بينها إصدار سلسلة من المختارات القصصية المترجمة من العربية إلى الإنجليزية. أتمنى أن تسير الخطة في إطارها المرسوم، ويتم الاندماج أو على الأقل تحقيق التعاون لإنجاز هذه المشاريع. ميرا دار نشر رائدة في العمل الورقي والإلكتروني، وهي غير ربحية يذهب ريعها إلى منح دراسية تُقدم إلى طلاب العالم الثالث للدراسة في بريطانيا.
*هل يطرح لديك مشروع استضافة أديب أو أديبة ممن ترجم له/ لها في البوتقة للتعارف والتواصل المباشر مع القراء؟
– سوف أرتب بالفعل لقاءات مع الكتاب البريطانيين في خلال فترة وجودي في إنجلترا، والأرجح أنها سوف تكون في مكتبة الساقي اللندنية.
البوتقة:
أسستها هالة صلاح الدين 2006 فصلية إلكترونية مستقلة تعنى بترجمة آداب اللغة الإنجليزية. تصدر من جمهورية مصر العربية. تعاونت المجلة مع الصندوق العربي للثقافة والفنون والمجلس الثقافي البريطاني في القاهرة.
__________________________
*جريدة ( الرياض)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *