*هدا السرحان
(ثقافات)
جلس في منتصف الطريق يبحث عن مخرج، بعدما احتدم الصراع في داخله؛ وحين اشتعل وعي الوطن ضد لغة المنفى، وجد نفسه في حالة عجز، غير قادر على التقدم خطوة، أو التراجع خطوة، إلى أن اتخذ قراره بإقامة جسر يربط بين الوطن والمنفى يعينه على العبور إلى الغد من دون أن يسمح للاغتراب بأن يتعمق في الذات وفي الحلم والذاكرة.
حمل أحمد المحسيري حقيبته وعدسة التصوير وعاد إلى بداية البداية، بعدما عاش أكثر من مرحلة، وأكثر من عمر، في لعبة الحنين والرحيل والمنفى. عاد ليبحث عن هوية يراها ولا يمتلكها ذلك المسافر بلا سفر.
حمله الحنين إلى ما مضى ليكمل بالصورة الجميلة المدروسة الفريدة ما عجز عنه الشعر، وما عجزت عنه الكتابة والخطابة. جالت عدسته في نواحي فلسطين التاريخية، تدافع عما بقي من حجارة وعمارة؛ وفي تطوافه رأت عيناه والتقطت عدسته صور غنائم الأرض المنهوبة المسلوبة، وانتزعت التراث الفلسطيني من أزقة النسيان.
أحمد المحسيري بعودته إلى الداخل امتلك هامشه الأوسع ليجمع السياسي والتراثي والتاريخي والفني في صور ملونة وبالأسود والأبيض زرعت الورود في ذاكرة الأجيال، وكان كمن زرع الأزهار في حدائق سجن كبير يقيم فيه ويقاوم ذلك الشعب المحاصر بالاحتلال.
عندما طاف أحمد المحسيري ربوع فلسطين اشتم رائحة يدي جدته المحنتين بالزعتر البري؛ كما اشتم رائحة النعناع الذي زرعه جده في حوض أمام البيت في مخيم أريحا.
هذه المشاهد والصور نراها في الرابع من آذار المقبل على جدران غاليري القاهرة عمان، في معرض الفنان أحمد المحسيري الأول بعنوان “تحت شمس الجرح” والذي أهداه إلى أرواح شهداء الوطن وروح الشهيد أسامة طوقان في ذكرى استشهاده الثالث والأربعين وإلى روح الناشطة “ريتشل كوري” التي طحن جسدها بلدوزر الاحتلال في غزة عام 2003.
وقد يكون أحمد المحسيري قد استوحى عنوان معرض صوره من رواية غسان كنفاني “رجال تحت الشمس”؛ لأن الشهيد غسان كنفاني كان من أكثر وأول الشخصيات الوطنية المبدعة التي تأثر فيها المحسيري خلال دراسته في جامعة بغداد التي شهدت بدايات اهتمامه السياسي والفني والتي هي الرائدة في الفن التشكيلي والخط العربي.
وعندما عاد إلى عمان بعد تخرجه من جامعة بغداد عام 1980 مارس نشاطات سياسية وثقافية ورياضية واجتماعية، وكان من الناشطين في نادي الوحدات، ولكن بعد حرب الخليج “عاصفة الصحراء” هاجر إلى الولايات المتحدة مع زوجته الطبيبة حنان والمولودة هناك ليتحقق حلمه بدراسة الفنون التشكيلية في إحدى الجامعات في ولاية كنتاكي، إلى أن اكتشف عشقه لفن التصوير الفوتوغرافي، حيث التقى الكيميائي الذي وجد متعته في “غرفة التحميض” لتظهير الصور والبحث عن أعماقها وظلالها في تقنيات الأسيد الأبيض.
وبعد تخرجه من قسم الفنون الجميلة من جامعة شرقي كنتاكي عام 2000 بدرجة امتياز، افتتح محترفه الخاص بالصور الأسود والأبيض إلى أن بدأ ينجذب إلى التصوير الملون الرقمي الذي اختطفه من أحضان الأسود والأبيض، فرافقته الكاميرا في زياراته وجولاته وأهمها عودته إلى فلسطين التاريخية في أكثر من جولة والتي بدأت أولها من القدس أول النشيد وأول الصور وأول خريطة الروح.
من القدس انطلقت رحلة كاميرا المحسيري التي بدأت تدق على جدران الذاكرة وتلامس الروح وتراقب تلاطم الأفكار في البحث في أكثر من جيل وأكثر من عمر وحلم في كل مدينة وقرية وحقل وجذع زيتونة أو سنديانة على سفح جبل.
وحول صور القدس قال المحسيري: “التقطت عدستي عشرات الصور لأن هذه المدينة تستحق لوحدها أكثر من معرض؛ فعدستي كشفت الانسجام الروحي في القدس خصوصا بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، كما أظهرت عراقة البناء والتصاق الناس بالبيوت المقدسية، وباعة الخضار بثوبها المطرز، عيون الشباب والشيوخ التي تروي للأجيال أكثر من حكاية”.
وأضاف حول جولاته في المدن الفلسطينية وصوره الفنية التوثيقية: “بقصد وبألف قصد تعمدت التوثيق أكثر لفلسطين التاريخية”.
و”زرت يافا وحيفا والناصرة وعكا، زرت فلسطين الداخل والساحل وهي فلسطين التاريخية التي حدثني عنها جدي الذي عاد إليها بعد حرب حزيران 1967، ولكنه لم يعد إلينا حتى الآن لأنه اختار الشهادة فكانت كل أرض فلسطين ضريحه الذي بلا شاهد”.
وأضاف: “مدن تدفقت بداخلي كما تتدفق على ضفاف روحي صور الشهداء وصور المعتقلين والأسرى. هناك التقطت صورا للأبواب والشبابيك العتيقة والبيوت التي تنير خيوط الشمس عتباتها. هناك حيث ينير الكرمل صدر حيفا، ويغسل البحر وجه يافا. التقطت صور المدن التي ترفض أن تعشق غير البحر وأهلها”.
وحول كيفية اختياره المشهد الذي أراد تصويره وتوثيقه قال: “تماما كما هو الرسام حيث يرسم بريشته، إن المصور يرسم بالضوء، فالتقاط الصورة هو لحظة اقتناص الضوء من فم العتمة.. هي لحظة العناق بين الظل والضوء”. وأضاف: “أما في حالتي هذه في فلسطين فإن لحظة التقاط الصورة كانت هي اللحظة التي تتعانق فيها روحي مع المكان”.
وعن سحر الطبيعة وفتنتها في صوره قال المحسيري “إن قيمة أي عمل فني تنبع من داخله ومن الجانب الجمالي والإنساني فيه وهما ينطبقان على الصورة أو للإنسان أو المكان، أي بمعنى أن قيمة العمل هي قيمته الروحية”. وقال “إنه لم يغفل جمال وسحر الطبيعة هناك بالمطلق، ولكنه لم يعطها كل اهتمامه، لأن الطبيعة ساحرة وجميلة في كل مكان هناك، ولكن المدن التي زارها كانت تزهو على سواها بالعراقة وعمق الجذور، وهناك تبدو الأماكن صامتة، ولكن كلما اقتربت من حناياها يدهشك الصهيل.. وكل ما في هذه المدن يشبهني، يشبه روحي”.
___________
* كاتبة من الأردن