ناصر عراق
خبران بائسان نشرا هذا الأسبوع يشيران بوضوح إلى أننا أصبحنا في زمن مختل يتسيده (الجاهل.. الموسوعي)، وسأشرح ذلك تواً!
الخبر الأول يتلخص في أن هناك مجهولين قاموا بوضع نقاب فوق تمثال أم كلثوم بالمنصورة، وأكرر تمثال! أما الخبر البائس الثاني فمنطوقه أن هناك مجهولين قاموا بقطع رأس تمثال نصفي لعميد الأدب العربي طه حسين كان يتوسط أحد ميادين محافظة المنيا، تاركين القاعدة خاوية تنعى هذا الزمن الأغبر!
ليس عندي شك في أن الذين فعلوا الأولى على ارتباط وثيق بالذين اقترفوا الثانية، على الأقل فكرياً وعقائدياً. وليس عندي شك في أنهم مجموعة من الشباب المساكين الذين لم يقرأوا حرفا للأستاذ العميد، ولم ينصتوا مرة إلى كوكب الشرق، بل قنعوا بما أفتى به بعض مشايخهم ضيقي الأفق الذين كالوا السباب لاثنين من أنبل وأعظم من أنجبت مصر على مر العصور. وهكذا انقض هؤلاء المساكين، مساكين لأنهم جهلاء، وقاموا بتغطية تمثال أم كلثوم، ثم قطعوا رأس طه حسين!
لا أعرف كيف ظن هؤلاء أن تمثالأ من الحجر يمكن أن يغري أو يثير أحداً؟ ليقوموا بتغطيته، أم تراهم يحاولون طمس رمز الفن الأكبر باعتبار أن السيدة أم كلثوم إحدى عجائب مصر في القرن العشرين وما زالت؟ وبالمناسبة فقد سمعتها في عدة دول أجنبية مثل كوريا الجنوبية وفرنسا وروسيا وإنجلترا، علاوة كل البلاد العربية التي أتيح لي زيارتها، حيث ينصت لأدائها الرفيع ويستمتع بأغنياتها المدهشة أي إنسان عربي عاقل وسوي الإحساس والمشاعر، وأكرر عاقل وسوي الإحساس والمشاعر! وقد حكى لي صديقنا المهندس الرقيق جمال عبد الناصر، وهو من المنصورة، كيف اعتراه الذعر حين شاهد صورة التمثال بعد تنقيبه، فطلب من أصدقائه وذويه أن يتوجهوا فوراً ليزيلوا النقاب الأسود عن وجه السيدة أم كلثوم صارخاً (كفانا فضائح)!
أما الأستاذ العميد، فأغلب الظن أن الذين قطعوا رأسه في المنيا لا يعلمون أنه لولا هذا الرائد العظيم ما دخلوا المدارس ولا تلقوا أي تعليم، فالرجل هو الذي أطلق قبل سبعين عاماً مقولته الشهيرة (التعليم كالماء والهواء.. يجب أن يكون بالمجان). وهكذا جاء عبد الناصر ليعمم مجانية التعليم بعد أن كان الأثرياء فقط هم الذين ينالون حظوظهم من العلم.
إن دور طه حسين في تطوير وعي وعقل هذه الأمة العربية، وليس المصرية فحسب، بالغ الأهمية، فقد أسهم في إخراجها من ظلمات الجهل والخرافة الذي رزحت تحتهما أربعة قرون إلى نور العلم والعقل، لكن للأسف جاءنا زمن سيطر فيه (الجاهل الموسوعي) على المشهد! فمن هو هذا (الجاهل.. الموسوعي)؟
إنه رجل تستضيفه الفضائيات ليل نهار ليحكي ويتحدث بجهل، وتنشر له الصحف مقالاته وآراءه المتخلفة بانتظام، على الرغم من أنه لم يقرأ التاريخ ولا يعرف الجغرافيا، ولا يفهم في الأدب، ولا يتقن علوم السياسة، ولا يعرف ألف باء الاقتصاد، ولا.. ولا.. ، وكل مؤهلاته محصورة في كونه أطلق لحيته وارتدى جلباباً فضفاضاً مثل الأفغان والباكستان، ويحفظ ما تيسر من آي الذكر الحكيم، أقول يحفظ فقط، ولا أقول يفهم!
هذا الجاهل الموسوعي يملك سلطة مهولة على الشباب المسكين المحروم من نعمة المعرفة وإعمال العقل، يأمرهم فيطاع، يوجههم فينفذون توجيهاته دون أن يستخدم أحد منهم عقله. والمدهش أن هذا الجاهل الموسوعي يفتي في كل شيء باعتباره عليما وحكيما وفطينا!
لعلك تذكر أن واحداً من هؤلاء الجهلة الموسوعيين أفتى بقتل نجيب محفوظ، فتطوع شاب لينفذ الجريمة بقلب بارد، ولولا ستر الله لراح الأديب الكبير بسبب فتوى بائسة، وبالمناسبة فالشاب الذي طعن محفوظ اعترف بأنه لم يقرأ له شيئاً، وإنما قام بتنفيذ ما أمره به الشيخ إياه. (مأساة المعارض التونسي شكري بلعيد الذي قتلته فتوى جاهلة أيضاَ غير بعيدة)!
هل تذكر كيف كان الشيخ كشك يشتم أم كلثوم في السبعينيات بأقذع الشتائم، فيلتف حوله الحمقى والجهلة يهللون ويصيحون، والآن أين الشيخ كشك ومريدوه؟ لقد اختفوا من الذاكرة والتاريخ، بينما عاشت أم كلثوم وستعيش إلى الأبد بإذن الله (رحلت قبل 38 سنة بالضبط، ومازالت تصدح بأعذب الأغنيات في كل الإذاعات العربية). وقد قدمت بفنها الراقي والجميل لمصر وللعرب وللإسلام ما لم يقدمه الشيخ كشك وأمثاله. (تذكر من فضلك قصائدها الساحرة التي تغنت بها في مدح الرسول الكريم وحج البيت الحرام مثل ولد الهدى فالكائنات ضياء، وسلوا قلبي، ونهج البردة، وحديث الروح، والقلب يعشق كل جميل.. إلى آخر أعمالها الدينية الساطعة التي تنير القلب وترقق الوجدان).
المؤسف أن هذا الجاهل الموسوعي مدعوم الآن من قبل السلطة السياسية التي تترك هؤلاء دون محاكمة على ما يقترفون من فتاوي بقتل المعارضين أو تشويه المفكرين والمبدعين وتهديدهم أحياءً، والإساءة إليهم أمواتاً. وهذه مصيبة كبرى تحتم على كل شرفاء هذا البلد ومثقفيه المحترمين أن يتصدوا لجحافل هؤلاء الجهلة بكل صبر وحكمة وحزم، وهي مهمة جليلة ما خطرت قط في بال أحد ونحن في القرن الحادي والعشرين!
ويا ست أم كلثوم ويا دكتور طه.. رجاء أن تسامحونا ولا تؤاخذونا بما فعل السفهاء منا.. رحمكما الله.
* كاتب من مصر
(القدس العربي)