موسى حوامدة *
إلى جودت فخر الدين
كتب الشاعر اللبناني جودت فخر الدين مقالة في جريدة السفير اللبنانية الجمعة الماضية، قال فيه: “لقد باتت الكتابةُ الشعريةُ العربيةُ، في معظمها، تتنكَّرُ للقصيدة! وما هذا التنكُّرُ في رأيي، إلا نوعٌ من الضّعف أو القصور أو التراجع، وإنْ كان بعضُ الكتّاب يدّعون فيه خياراً أو اتجاهاً فنياً. وكأنّ القصيدة، في نظَر هؤلاء المدّعين، لا تصلحُ (أو لم تعُدْ تصلحُ) حضْناً للشعر.
ولنتّفقْ، في بداية حديثنا هذا، على أنّ المقصودَ بالقصيدة هو النظامُ المحكَمُ في الكتابة الشعرية، الذي يقومُ على عناصرَ عديدة، منها العنصرُ اللغويُّ والعنصرُ البلاغيُّ والعنصرُ الموسيقيُّ … وغيرها.
كما تنبغي الإشارة إلى أنّ الشعر له مفاهيمُ كثيرة، وأنه ـ في مفهومه الواسع ـ ليس محدوداً بالقصائد، بل يمكنُهُ أنْ يوجدَ في ما لا حدودَ له، وخصوصاً في الفنون على أنواعها، كالرسم والموسيقى والمسرح … الخ”.
خلاصة ما يريد الشاعر فخر الدين قوله أن الكتابة الشعرية العربية اليوم ابتعدت عن الوزن والموسيقى فابتعدت عن الشعر، وهو يطالب بعودة القصيدة الشعرية، التقليدية بكل مضامينها، وطرائق كتابتها، ومناخاتها وأساليبها، أي إتباع الوزن الخليلي، على الأقل، ثم التمسك بتعريف الشعر القديم باعتباره موسيقى ووزنا وإيقاعا ثم معنى، وبكلام آخر؛ فإن فخر الدين المتمسك بكتابة القصيدة التفعيلية، وهذا حقه، يعتبر الحركة الشعرية الحديثة، مجرد كتابة عادية، وليست شعرا، فالشعر موجود في كل كتابة وكل فن، وفي كل نواحي الحياة، وما دام الشعراء الجدد، والمحدثون يقولون بذلك ويقرونه، فأين الشعر الصافي؟ وأين السجالات الشعرية، وأين التقاليد العربية الشعرية العريقة؟ على حد تساؤله وتعبيره.
وهنا مع محبتنا وتقديرنا الكبيرين، لتجربة الصديق جودت ومكانته، فإننا لا نوافقه الرأي بأن القصيدة تنكرت للشعر، وذهبت بعيدا عنه، ربما ينطبق هذا الكلام على بعض التجارب أو على جزء منها، ولكن لا يمكن أن نكمم أفواه الشعراء، ونجبرهم على الجلوس تحت مظلة الخليل بن أحمد، وطريقة نمطية محددة لكتابة القصيدة. فالتطور الذي شهدته الشعرية العربية تطور مذهل، قطع فيافيَ ومفازاتٍ بعيدة وجديدة، ولا يمكن حصر الكتابة مهما كانت في طريقة واحدة رتيبة ونمطية، صحيح أن القصيدة اختلفت عن العصور السابقة، ولا بد أن تختلف، بل من الطبيعي والضروري أن تختلف، وصحيح أن الكتابة الشعرية صارت فنا كتابيا، وليس شفاهيا، كما يقول الناقد والشاعر المغربي صلاح بوسريف ولكن هذا طبيعي، وشيء مطلوب، بل شيء يحمل كل مسوغات العصر والتحديث والتجديد.
ومهما نأت وانحرفت وشطت وابتعدت القصيدة عن العروض والعامود والتفعيلية والقصيدة النزارية والسيابية والماغوطية والأدونيسية حتى، فهذا شيء طبيعي بل مستحب ومطلوب، للذهاب الى أقاص شعرية جديدة، أما لو بقينا محافظين على النمط التقليدي للقصيدة، سواء الكلاسيكية أو الملائكية أو حتى نمط قصائد شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج، وغيرهما فسنظل نراوح مكاننا، ثم لماذا لا نترك العنان للقصيدة؟ لماذا نريد تلبيسها ثياباً ماضوية باستمرار، وكلما ذهبت إلى مناخ جديد نطالبها بالعودة الى روضة الأطفال، واستحصال الإذن من شيوخ معمدين، وكأنها شبَّت عن الطوق، ولا بد من إعادتها لبيت الطاعة.
نظن أن القصيدة لا شيوخ لها، ولا قساوسة، ولا عمداء، ولا تابوهات أمامها، ولا منظرين لها، فالقصيدة سيدة نفسها، وحين تُكمَّم وتجلبب وتُلبَّس زي غيرها، وماضيها فهي تتحنط، كما حصل في عصور التخميس والتسديس وكتابة الأحاجي والألغاز.
ليس مطلوبا من القصيدة، أن تسير في عباءة أحد، أو مدرسة أحد، والكتابة الشعرية التي تحلق وحدها في عنان سمائها، هي من تسبق غيرها، ومن ترفع جمهورها، ولكن المصيبة في جمهور، لا يريد زحزحة ذائقته، وفي نقاد لا يريدون التخلي عما حفظوه وعرفوه، بل يرفضون إطلاق الخيال للشعراء، ويصرون على نمط معين، حتى في كتابة قصيدة النثر، كما في نمط سوزان برنارد، كما كان يصر غيرهم على نمط نازك الملائكة، والصراع الدائم على من كتب قصيدة التفعيلة أولا.
القصيدة لا تريد كاتولوجات جاهزة ولا نصائح مكررة.
القصيدة مبتكرةٌ نفسها، فلا توابيت جاهزة لوأدها.
القصيدة قذيقة، تخلق نفسَها، وتندفع من تلقائها، ولا حدَّ لمرماها ومسارها وهدفها.
القصيدة تتقبل، بل تتوسل التخلي عن سواها، ونحن نصر على تربيطها في رباط الماضي، وتكتيفها بأوتاد وجمل نقدية معروفة، وكلام أوائل كانوا في زمانهم روادا ومبدعين، ولا يمكن أن نعيد إنتاجهم مجددا، ولا يمكن أن يظل إبداع الأجيال الجديدة، في حدود تجديد الصورة الشعرية، رغم استهلاك الأنماط السابقة كلها