“رام الله الشقراء” .. شيطنة الاخر لنقد الذات



• جهاد الرنتيسي

( ثقافات)

 

تختصر مقاربة “تجاهل ما قيل ومديح مالم يقل” رغبوية معظم القراءات التي تناولت رواية عباد يحيى ” رام الله الشقراء ” التي شقت طريقها بجرأة صادمة لتضع بصمتها على المشهد الروائي الفلسطيني .
لبس قراءة المحتفين بالرواية ، التي لا تخلو من فرادة كشف الخبايا المسكوت عنها ، في مدينة مفخخة بالالغاز ، يعود بالدرجة الاولى الى الطريق الالتفافية ، التي اتبعها الروائي ، لنقد الواقع الفلسطيني ، ببعديه السياسي والاجتماعي .
وجد الروائي في الاقتراب الوعظي ، من المظاهر المرافقة للتحول المجتمعي ، مدخلا مناسبا لنقد المؤثرات ، التي ادت الى هذا التحول .
ابرز هذه المؤثرات ، العامل السياسي ممثلا باتفاق اوسلو ، كما ورد في الرواية اكثر من مرة ، باعتباره منعطفا ، لعلاقة العاصمة السياسية المفترضة للسلطة الفلسطينية ، بالاخر المشكوك في نواياه.
استطاع الروائي من خلال علاقة الانا والاخر ، المثيرة للجدل ، الكشف عن الخلل المزمن في نظرة السلطة الفلسطينية لهويتها المجتزأة ، ومواطنيها ، والسياسة التي تتبعها في ادارة حياتهم اليومية ، بابعادها الامنية والثقافية والاقتصادية ، لا سيما وان الحيز الاوسع للرواية كان التفاصيل اليومية للعلاقة بين الانا الفلسطينية التائهة في الضفة الغربية والاخر الغربي الغامض الذي يظهر بصور المتضامنين الاجانب والمنظمات غير الحكومية القادمة من عواصم غربية.
من خلال هذا الحيز ، وتوظيفه للمكان ، رسم الروائي صورة للمدينة العصية على اهلها ، المفتوحة ابوابها امام الاخرين ، لكن الامر لم يخل من مبالغة في سطحية نظرته للعلاقة مع الاخر ، المشكوك في نواياه ودوافعه.
ففي احسن احواله ظهر الآخر بين شخوص رواية ” رام الله الشقراء ” باحثا عن مغامرات جنسية عابرة في بلادنا ، وفي اسوأ احواله جاسوسا اسرائيليا يتقمص شخصية متضامن مع الشعب الفلسطيني ، وبين هذه الحالة وتلك لم يخل الامر من قناصي فرص ثراء ، فيما يظهر المتضامنون الحقيقيون بصورة الاستثناءات التي يصعب القياس عليها .
نظرة الريبة التي يكشف عنها التعامل مع الاخر ، تنطوي على رغبة واضحة في تجاهل مؤثرات اختلاف الثقافات بين الشرق والغرب ، والتي تشمل النظرة للجنس وتحولات الشوق ، والعلاقة بين الجنسين ، لتتغير صورة الاخر من متضامن مفترض الى مخادع او متآمر او مستغل او مغتصب .
الصورة المفترضة للاخر لا تخلو من انكفاء عن صورته في المخيال الفلسطيني ، التي اثرتها تجربة عقود مضت من الشتات ، وما زالت بقاياها باقية ، في حرارة الترحيب باساطيل الحرية التي وصلت الى قطاع غزة ، والانفعال المصاحب لتظاهرات العواصم الغربية ، ووصول شبان وفتيات لمواجهة المستوطنين وقوات الاحتلال في الضفة الغربية، بمساعدة الفلاحين على قطف ثمار الزيتون ، والمشاركة في تظاهرات القرى المحاذية لجدار الفصل العنصري .
اعتاد الفلسطيني على التعامل مع قضيته ، باعتبارها واحدة من القضايا العادلة، المتداخلة مع قضايا كونية اخرى ، وتحالفات اثرت في تحديد اشكال النضال الوطني ، وكان حشد الراي العام العالمي ، وجلب التعاطف الاممي ، ولم يزل شكلا من اشكال النضال الوطني الفلسطيني ، وعلى الدوام كان هذا الشكل النضالي حاضرا في الانتقال بالقضية الفلسطينية من طور الى اخر , يستند الى عدالة القضية ، وقناعة بان التأييد والتعاطف العالمي عاملي قوة لا يمكن الاستغناء عنهما في مواجهة عنصرية الفكرة الصهيونية .
ضعف الفلسطيني ، الذي ظهر واضحا ، من خلال العلاقة بين شخوص الرواية الفلسطينيين و بطلاتها الشقراوات ، لم يأت بالتأكيد من قدوم المتضامنين الغربيين الى رام الله ، واختلاف ثقافتهم عن ثقافة اهل البلاد ، وانما نتيجة لخلل ثقافي واجتماعي في البنية الذهنية الفلسطينية ، جوهره غياب القدرة على استيعاب الاخر ، ولذلك تعاملت معهم مراكز البحث باعتبارهم مادة بحثية .
ينعكس هذا الخلل بشكل تلقائي على بنية السلطة الفلسطينية وادائها السياسي وطريقة ادارتها الحياة اليومية للفلسطينيين الخاضعين لادارتها .
كما يغذي هذا الخلل ـ اذا لم يكن سببا رئيسيا ـ حالة الانقسام السياسي بين رام الله وغزة .
ثقافة الانكفاء الناجمة عن الاحباطات والانكسارات الاجتماعية والسياسية ، التي ظهر اتساعها واضحا في اجواء الاحتفاء برواية ” رام الله الشقراء ” فعلت فعلها في خلط الاوراق ، واعادة ترتيب الاولويات ، ليصبح المتضامن عدوا ويتحول الاحتلال والتخلف الاجتماعي ومظاهر التخبط السياسي في سلوك القيادة الفلسطينية خطرا ثانويا على مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته.
طرحت ” رام الله الشقراء ” اسئلة ، تتجاوز التحذير من خطر مفترض ، لمراكز البحث والمتضامنين ، والنفور من قصور السلطة الفلسطينية وتجاوزاتها ، بتسليط الضوء على نظرة الفلسطيني للاخر ، و مدى قبوله للتعددية والانفتاح على العالم ، و تحولات المفاهيم الاجتماعية بين ما كانت عليه الحال خلال ثورة “بساط الريح ” وما اصبحت عليه بعد قيام سلطة تدير الامور الحياتية للسكان ولا تملك السيادة على الارض ، الا ان الاحتفاء بالرواية كاد ان يتجاهل اختلالات فهم التفاعل مع الاخر ، ومحاولة نقد هذه الاختلالات اوقعت اصحابها في دفاع عن سلطة ، باتت اقرب الى جثة تنتظر الدفن ، مما يبقي القراءات تدور في دوامات التشكيك الاصولي بالثقافات الاخرى ، بتنوعاتها الشرقية والغربية ، والدوران حول ذات تائهة .

• كاتب وصحفي من الاردن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *