باصُ أبي تسوقُهُ مارلين مونرو


علي السوداني

( ثقافات )

سأفترضُ أنَّ عمري أُوانها ، كان سبع سنين . سأفترضُ أنَّ يديَ الغضة ، قد تعرّقت بيمين أبي السائر بي ، صوب الباب الشرقي من بغداد العباسية . سأفترض أنني لم أكن على منام وغطيط أحلم . سأفترضُ أنني كنت على مقعد الثاني الإبتدائي . سأفترض أنني لم أكن ألثغ بالسين ، ولا ألحنُ بلامٍ تقعد بفرجة نون . سأفترض أنّ الفلس الأحمر ، ما زال عزيزاً . سأفترض أنني وصلتُ وأبي ، الباب الشرقي من الحاضرة الذهبية ، بوساطة باص مصلحة . أعني مصلحة نقل الركّاب المشهورة بهذا المسمى الرحيم . سأفترض أنني لم أغصْ سحيقاً ، ببحر تلك التسمية . سأفترض أن الباص ، كان احمر بطبقة واحدة ، وخشم مأكول منخره اليمين . سأفترض أنَّ ذاكرتي معمولة من حديد . سأفترض أن أبي الحبيب ، قد زرعني بحضنه الدافىء ، كي لا يشيل جيبه المثقوب ، سعرمقعدي الذي يشبه ثقله ، ثقلَ عشاء عائلة . سأتذكر أنَّ أبي البديع ، قد أطلقني من حضنه ، بعد أول غياب لوجه الجابي . سأفترض أن الأبَ كان عامداً متعمداً في بناء امبراطورية ” جيم ” . خمسة أبناء تبدأ أسماؤهم بحرف الجيم ، وسادسهم يبسمل في العين . سأفترض أننا نزلنا بحديقة الأمة ، من أعمال الباب الشرقي . سأتذكر أن وسط الحديقة ، كان برْكة ماء ، يسير فوقها جسر . سأنبش ذاكرتي ، وأرى أن البركة كانت عملاقة مثل بحر ، وأن الجسر كان عظيماً . سأفترض أن أبي ، شوّفني جدارية فائق حسن ، المدقوقة بمفتتح الحديقة ، من صوب ساحة الطيران ، ونقّلني من ذاك الصوب ، إلى أوّلها القائم على ساحة التحرير ، وذيل جسر الجمهورية من صوب الرصافة . سأفترض أننا طققنا صورة ، بالأبيض والأسود ، تحت نصب الحرية ، الذي خلقه وأزمله النحّات الرافديني جواد سليم . سأتذكر أن أثاث النصب ، قد بدا واضحاً في الصورة . ربما كان اسم المصور ، فلاح . فلاح المصور ، كان بوجه أحمر ، وشعر مسروح . سأحرث الذاكرة ، فأتذكر أنّ المصور ذا الخلقة الحمراء ، كان سألني عن اسمي ، فأجبتُ ، وعن اسم مدرستي ، ففعلت ، وعن عدد الحروف الذي أحفظ ، فعددتها حارناً عند منتصفها . فلاح رجلٌ ثرثار ، رفض بقوة ، تسلّم سعر الصورة من أبي . سأفترض أن حامل الكاميرا ، فلاح الأرعن ، قد قرصني من خدّي فبكيتُ . سأتذكر أن أبي ، قد أحس بعار كبير ، لأن القرصة أوجعتني ، وأساحت دمعي ، وصيّرتني مثل بنت دلّوعة . سأتيقن من أنني كنت سألت أبي ، عن الكائنات الغريبة المدقوقة فوق نصب جواد سليم . سأتذكر أن أبي كان حدّثني عن بقرة أو ثور ، وقضائب سجن وجندي وامرأة ، وقنبلة ، ورجل اسمه عبد الكريم قاسم . سأتذكر أن أبي ظل حريصاً على إبقاء يدي الغضة ، نائمة في حضن يمينه الخشنة . سأفترض أن أبي كان سألني إن كنت أحسّ بجوع . سأقول له بوجه ، لبسَ قناعاً سميكاً : بكيفك . سأجد في عتق الذاكرة ، أن أبي قد جرّني نحو زقاق طويل ، ممتد في الجانب المواجه لحديقة الأمة ، عند استهدافها من وجه شارع الجمهورية . في خاصرة الزقاق ، ثمة دكان حسين أبو العمبة . مطعم حسين كان أقرب تشبيهاً بكهف صغير محفور في جبل . سقف واطىء ، والداخل يمسح الخارج بكتفه ، ورائحة العمبة المفلفلة تكاد تنزل الطير من مخدعه . في دكان حسين ، وهو رجل قصير مربوع مبتسم وشعره ملفلف ، ومنظره لطيف ، لولا تلك الثلمة التعيسة المنحوتة على سنّهِ القاطع ، إحتللنا ربع مصطبة من خشب وسخ . سأُصرُّ على أنني لست على حلم يقظة ، أو حلم غطيط . سأكتب أن طعم سائل العمبة الكثيف ، ما زال يلبط فوق لساني . سأتذكر أنني كنت على رغبة ضخمة ، لتطميس أخير لفّة العمبة والبيض ، بطاسة العمبة الكبيرة . طاسة بيضاء شاسعة مملوءة بمستحلب أصفر رجراج ، وشرائح المانجا الهندية المخللة الحامضة . فوق الطاسة ، جسر من خشبة ملساء ، صفّت فوقها ، ثمرات المانجا الخضراء ، والفلفل الأخضر الحار المخلل ، الذي إنْ قضمتَ منه ، مثقال حبة ، فإن النيران قد تخرج من حلقك وأذنك . سأتذكر أنني وأبي ، كنا اكتفينا بالنظر إلى محمولات جسر الخشب ، حالنا من حال أزيد زبائن وفقراء دكان الرجل الربعة حسين ، حيث سيصل سعر حبة المانجا الواحدة ، إلى سعر الوجبة كلها . سأتذكر أننا تركنا دكان الرجل القصير ، ببطنين راضيتين مرضيتين . على مبعدة خمسين متراً ، كنا بمواجهة دكان ” وحيّد ” بائع الملابس الملبوسة . أخبرني أبي أنّ وحيّد ، هو أحد أعزّ أصدقائه ، لكنني بعد خمس دقائق ، فضّلتُ لو أنّ أبي ، وصف نفسه ، بأنه أحد الزبائن المؤبدين ، قدّام عتبة وحيّد أبو اللنكة . سأتذكر بدقة ، أنّ أبي قد اشترى لي من وحيّد الأبله وجه البومة ، بنطروناً أسودَ ، وقميصاً أبيضَ . لم يسألني أبي عن لوني الذي أُحبّ . كنت أريد بنطروناً أزرق من صنف الجينز . وقميصاً أقلّ زرقة من البنطرون . في حرثة من حرثات الذاكرة المشتعلة ، سأُجزم بأنّ أبي الفقير ، كان سألني ، مائة مرة ومرة ، إن كنتُ مبتهجاً بهذه الرحلة . كنتُ استمتعتُ بالصورة التي ظهرت بالأبيض والأسود ، على حائط جواد سليم ، وأيضاً ، بخلطة العمبة والبيض المسلوق والطماطة التي تنام في بطن صمّونة ، شكلها مأخوذ من شكل زوارق دجلة . كذلك رائحة سوق الهرج ، ومنظر هرج السوق والوجوه الغريبة ، ونداءات البضاعة المموسقة . كانت الرحلة حلوة وجميلة ، على الرغم من أنها انثلمت قليلاً ، بلون القميص والبنطرون ، وبحذاء النايلون الحار الذي اشتريناه تالياً ، من بسطة عبود الأقرع أبو القنادر . صرنا الآن في أول العصر ، من ذاكرة منبوشة ، مثل قبر مخسوف . عادت يدي ثانيةً ، ونامت بيد أبي الكبيرة ، حتى صرنا بباب دار سينما عظمى ، اسمها سينما غرناطة . شيت طويل يغطي جبهة السينما ، لا أتذكّر منه الليلة ، سوى ذلك البطل الوسيم ، يمتطي حصاناً قوياً ، وتشيل كتفه ، بندقية ، ويتسوّر وسطه ، بحزام طلقات ، ومسدس أبو البكرة . لم يقترح أبي عليَّ دخول السينما ، ويبدو أن سنواتي السبع التي كنت أمشي وأتوكّأ عليها ، لم تقنعه بالأمر ، فإكتفى بمباوعة صور محبوسة داخل جامخانات حائطية ، وهي لقطات فوتوغرافية ، مستلة من الفلم المعروض ، والأفلام التي ستنعرض تباعاً من على شاشة غرناطة المدهشة . سأتذكّر أنّ أبي قد تمسمر طويلاً ، أمام واحدة من تلك الجامخانات . أفلتَ أبي يدي هذه المرة . سأتذكّر أنه طلب منّي ، أن أتفرج على جامخانة الكاوبوي والهنود الحمر . سأتذكر أن والدي البديع الحنون ، قد داخ وسكر على صورة امرأة فاتنة ، مرة بملابس البحر ، التي تكوّر المؤخرة ، وثانية بملابس تتيح رؤية القسم الفائر من الثدي ، وثالثة تجعل الناظر يتشاهق ، من إثر شمّة افتراضية عند مزرعة زغب ، بعتبة إبطٍ عاطر . إنتهى أبي من رسم عينيه القنّاصتين ، فوق جسم بطلة الفلم – لعلها كانت مانرين مونرو – وانتهيت أنا من تخييل منظر طلقات الرجل الكاوبوي ، وهي تمطر على رؤوس الفارّين – لعلهما الثنائي ترانس هيل وبود سبنسر ، يطاردان سَرَقَة مصرفْ – سأعود فوراً وأتذكّر ، أنّ الرحلة كانت منعشة ، وأبي كان طيباً لذيذاً حميماً ، حتى بعد أن عدنا الى البيت ، بوساطة سيارة شيوعية اسمها ” 66 ” رفض أبي أن يدفع ثمناً لمقعد خاص بي – كما وقع في أول الرحلة – فزرعني في حضنه ، ناطراً نزول أحد الراكبين من جوف الباص ، لأستوطن كرسيّه ، وهذا لم يحدث أبداً . سأتشمّم الصورة الليلة . ألصورة التي التقطتها عين كاميرا فلاح الرقيع ، بالأبيض والأسود . سأقرأ خلف اللقطة نصف سطر يصيح : أُخذتْ يوم الجمعة ، تموز من سنة 1967 . بدا أن نصف السطر ، كان كُتِبَ بوساطة قلم حبر لم تسح حروفه . ربما كان قلماً مشهوراً يومها ، اسمه قلم باندان . لا أدري من كتب هذا . ألحق أنه ليس بخط يد أبي . أبي كان من الناس التي لا تقرأ ولا تكتب . ربما كان ربع السطر العزيز ، من صنع المصوّر الشوارعي فلاح ، أبو وجه الطماطة ، والشعر المصفوف ، بدهن الهند .

شرح الباقي من مفردات العراقي :
ألجابي : الرجل الذي يجبي أسعار تذاكر الراكبين في الباص . كان لباسه رماديّاً ، وهو شمّام لا تفوته فائتة ، ولا خديعة راكب مفلس .
ألعمبة : شرائح نبتة المانجو ، تسلق وتتخلل وتوضع في سائل ، سيتكاثف ويأخذ اسم النبتة .
اللفّة : تسميها الناس الإفرنجة ، الساندويجة ، وقد ساحت التسمية فوق السنتنا ، لأنها ان قيلت بلسان العلّامة مصطفى جواد ، لتسببت لك بمعركة كبرى مع البائع .
طاسة : إناء أو حاوية كبيرة . ليست قدْراً . أظنها طنجرة ما .
الّلنكة : الملابس المستعملة الملبوسة الممتازة برخصها . لتكن البالة .
الشيت : ألبوستر العملاق الذي يشير الى الفلم وابطاله ، ويندقُّ في واجهة السينما ، على خشبة مستطيلة ، بواسطة مسامير لها رؤوس مفلطحة ، تعين الداقوق على دقّها باستعمال ابهامه القوية . ثمة عامل بغدادي مشهور بهذا العمل ، اسمه عادل الشاذي .
جامخانة : خزانة صور منحوتة في جسد الحائط ، تنحبس فيها صور الفلم المعروض ، خلف واجهة من زجاج ، وقفل يمنع السكارى والصعاليك ، من استعارة صورة نادية لطفي ، لإستعمالها في ليل الوحشة والبرد .

 

 

   * أديب من العراق يعيش في الأردن

عن مجلة الدوحة الثقافية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *