الأدب الياباني من ثورة‏1868‏ إلى هيروشيما‏1945‏



* منصور أبو العزم

لم يتأثر الأدب الياباني طوال تاريخه الممتد منذ القرن الثامن الميلادي بمثل ما أثرت فيه هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين في تاريخ البشرية علي مدينتي هيروشيما ونجازاكي‏.‏
فقد كانت جراح الحرب عميقة.. والآثار التي تركتها قنبلتا هيروشيما ونجازاكي على المواطن والمجتمع الياباني الأكثر ألما وعذابا في تاريخ اليابان, وقد تركت تلك الحرب بكل ويلاتها بصمات واضحة على الأدب الياباني الحديث الذي ظهر في الفترة من عام1947, وحتى الآن.
والواقع أن عام1868 كان حاسما في تاريخ اليابان الحديث وازدهار الأدب الياباني, حيث استعاد إمبراطور الميجي العرش وأدخل أصلاحات هائلة علي كل مجالات الحياة في اليابان ابتداء من الزراعة والتعليم ونظم الحكم والإدارة والري وحتى الرعاية الصحية, وتبني الكثير من المفاهيم الغربية وأرسل البعثات التعليمية إلي أوروبا والولايات المتحدة لنقل التجارب الناجحة والنظم التي يمكن أن تسهم في تطور ورقي اليابان, كما ازدهرت حركة الترجمة بقوة من جميع اللغات, مما أثر بقوة على تطور اليابان وانعكس كل ذلك على الأدب الياباني نثرا وشعرا وقصصا.
وكان لتشكيل حكومة مركزية مستقرة في المنطقة التي يطلق عليها ايدو أو طوكيو العاصمة حاليا, بعد سنوات طويلة عاشتها اليابان في ظل ممالك shogunate أو ولايات متفرقة يحكم كل واحدة فيها أسرة مختلفة, أثره الكبير في ظهور اقتصاد السوق وطبقة متوسطة من أبناء المدن وتطورات دور النشر حتى أصبحت الأعمال الأدبية من السلع التي يتم تداولها في السوق.
ومن أبرز الأعمال الأدبية التي صادفت نجاحا تجاريا واضحا عقب ثورة الميجي1868, وتطور دور النشر كانت رواية
Hoshokuichidaiotoko أو حياة رجل عاشق للمؤلف إيهارا سايكاكو, وكانت من باكورة الأعمال الأدبية التي حصدت جمهوراً كبيراً من القراء, وأصبحت من أبرز الأعمال الأدبية لفترة ايدو, كذلك ازدهرت الأشكال الشعرية المكونة من17 مقطعا من الشعر الخفيف ويطلق عليها باليابانية هايكوHaiku وتتناول مواضيع من حياة الشعب ومن حياة البسطاء والعامة ومن الطبيعة.

ومع تأثر اليابانيين بإصلاحات الميجي ودخول الترجمات الغربية علي الثقافة اليابانية ـ بعد أن كان ذلك محرما قبل1853, تأثر الشعر الياباني أيضا بالأشعار الغربية في المضمون, وفي الشكل أيضا, وظهرت ولأول مرة الأشعار اليابانية ذات المقاطع الحرة ، أو (الشعر الحر) كما نطلق عليه، وتناول الشعر والقصص الطويلة والقصيرة موضوعات رومانسية وعاطفية, وظهور أدب الاعتراف أو السيرة الذاتية ـ
يقول شوأتشي كاتو في مجلده الرائع عن تاريخ الأدب الياباني الجزء الثالث أن من بين الكتب التي لاقت نجاحا واسعا في اليابان في السنوات القليلة التي أعقبت إصلاحيات الميجي, كان كتاب فوكوزاوا يوكوأتشي أحد أبرز رواد التعليم في تلك الفترة والذي زار مصر وكتب عنها وهو في طريقه إلى أوروبا في بعثة تعليمية ـ الكتاب حمل عنوان (في مدح التعليم) يتحدث فيه عن الفرق بين التعليم في اليابان وفي الغرب وكيف طورت أوروبا وأمريكا التعليم وأن التعليم هو الذي قادها إلي التطور والرقي الذي تنعم به آنذاك! وكان أول كتاب مطبوع في اليايان يوزع220 ألف نسخة في الوقت الذي كان فيه عدد سكان اليابان نحو35 مليونا ـ كتب فوكوزاوا كتابه وظهرت طبعته الأولى في عام1872 بعد عودته من بعثته التعليمية في أوروبا ـ وهي حالة تشبه كتاب رفاعة رافع الطهطاوي تخليص الأبريز في تلخيص باريز عن مشاهداته لأسباب تطور الغرب والتعليم في أوروبا على وجه العموم وكيف نتعلم ونطور أساليب التعليم لدينا والذي كتبه عقب عودته من البعثة التعليمية لفرنسا عام 1831.

هكذا تغيرت أساليب التعليم والدراسة في اليابان, وكان الجيل الذي تعلم خلال الفترة من1870 حتى بداية القرن الـ20 مختلفا كثيرا عن أجيال الكتاب والمفكرين اليابانيين قبل هذا التاريخ كما يقول شوأتشي كاتو ـ فقد بذلت الدولة جهودا كبيرة في إدخال إصلاحات جديدة علي المدارس تضمنت نوعية التعليم الغربي.. وأخذت المدارس القائمة تدرس اللغة الانجليزية إلى جانب الصينية والثقافة التقليدية, بل أن العديد من المدارس والجامعات بدأت تقوم على مبدأ تدريس اللغة الانجليزية منها مثلا مدرسة كيو جيجوكو التي أسسها الإصلاحي فوكوزاوا يوكوأتشي, والتي تحولت فيما بعد إلى جامعة كيو الشهيرة في طوكيو.
ثم أننشأت الحكومة مؤسسات تعليمية جديدة تتبع نظام التعليم الغربي, حيث أسست مدرسة للاقتصاد ثم أخرى للطب في عام1873 ، وفي عام1877 تم دمج المدرستين لتظهر إلى الوجود جامعة طوكيو الامبراطورية ـ جامعة طوكيو الآن ـ ثم بعدها بسنوات قليلة تظهر مدرسة سينمون الخاصة التي أصبحت فيما بعد جامعة واسيدا الشهيرة التي أسسها أوكوما شيجنوبو.
إذاً، كانت هذه هي البيئة الثقافية التي تربى فيها كتاب ومثقفي اليابان قبل الحرب العالمية الثانية, ولكن بعد هزيمة اليابان وقنبلتي هيروشيما ونجازاكي, والاصلاحات الجديدة التي أدخلتها القوات الأمريكية التي احتلت اليابان بعد الحرب لعدة سنوات, تركت بصمات قوية على الأدب الياباني الذي ظهر بعد انتهاء الحرب, حيث تم تجريد اليابان من سلاحها وقواتها وفقا للبند التاسع من الدستور الذي شارك في وضعه بقوة الجنرال ماك أرثر قائد قوات الحلفاء التي إحتلت اليابان, ثم إدخال إصلاحات ديمقراطية علي النظام السياسي شملت سلطات الأمبراطور نفسه ـ وظهرت عقب الحرب الكثير من المذكرات الشخصية سواء تلك التي تحكي عن مشاهد الرعب في هيروشيما ونجازاكي بعد القنبلتين, أو مذكرات جنود يابانيين سابقين شاركوا في الحرب, وعلي سبيل المثال, فإن كتاب فوريوكيFuryoki أو مذكرات آسير التي نشرت عام1948 ـ أي بعد الحرب بثلاث سنوات, وكتبها أووكا شوهي وحظيت بشعبية واسعة, حيث تم أسره من قبل القوات الأمريكية في الفلبين حيث كان معسكره!أيضا ما كتبه نوما هيروشي
nomahiroshi عن ذكرياته في معسكرات الجيش الياباني في الفلبين التي إحتلتها اليابان قبل الحرب العالمية الثانية أو في الصين التي إحتلت اليابان منها وأقامت دولة منشوريا في الفترة من عام1941 حتى 1944.

يعد ياسوناري كواباتا, ويوكيو ميشيما, من بين أبرز الروائيين والكتاب اليابانيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ففي عام1968 وكان عمره69 عاما, أصبح كواباتا أول ياباني يحصل علي جائزة نوبل في الآداب, فقد ولد كواباتا في عام1899 في أوساكا وعاش طفولة بائسة ليس بسبب الفقر, فقد كان والده يعمل طبيبا وحالته المادية ميسورة, ولكن لأن والده توفي وعمر ياسوناري لا يزيد على عامين, وبعد عام واحد توفيت والدته ثم توفيت جدته لوالدته والتي كانت ترعاه مع أخته وعمره سبع سنوات, ثم كانت الطامة الكبرى بوفاة اخته الوحيدة ولم يتجاوز السنوات التسع! وقد تركت تلك الأحداث أثرا عميقا في نفس ياسوناري الصغير, وحالت دون أن يعيش طفولة طبيعية, وكان دائم التحدث عنها وعن وحدته واصفا حياته بأنه عاش مثل طفل بلا منزل أو أسرة وظهرت ملامح كثيرة من جراح طفولته في العديد من رواياته وقصصه القصيرة.
بعد وفاة جده لأبيه, وعمره16 عاما انتقل للدراسة في مدرسة داخلية في الثانوية, ثم انتقل من أوساكا إلى طوكيو, حيث درس الأدب في الجامعة الأمبراطورية بطوكيو عام1920 وتخرج عام1924.
ولفت انتباه النقاد والجمهور بشدة عندما أصدر روايته إيزو نو أو دوريكوizu-noodoriko أو راقص إيزو ـ إيزو جزيرة صغيرة في جنوب اليابان ـ عام1925, ثم تزوج في عام1931 وعاش في منطقة كاما كورا التاريخية جنوب غرب طوكيو, وبعد انتهاء الحرب نشر كواباتا أشهر رواياته يوكيجنيyukinguni أو دولة الجليد عام1948, ثم أعقبها بتحفة أدبية أخري هي يامانو أوتو أو صوت الجبال عام1954, وأصبح من أشهر روائي اليابان في العالم إلا أنه وفجأة دون أن يترك ورقة, أقدم على الانتحار في عام1972 بعد عامين فقط من انتحار صديقه, ورفيق دربه يوكيو ميشيما عام1970!
اما يوكيو ميشيما فقد ولد عام1925 ، وهو من أشهر كتاب القصة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مع كواباتا, وهو روائي وكاتب مسرحي وممثل ومخرج سينمائي وشاعر, تم ترشيحه لجائزة نوبل في الآداب ثلاث مرات, ويعد واحدا من أعظم الروائيين اليابانيين بعد الحرب.
ولد في منطقة كيميتاكا هيراوكا بالقرب من طوكيو.عمل والده موظفا بالحكومة, وظهرت مواهبه الأدبية, خاصة في الشعر والقصة القصيرة وشجعه زملائه وأساتذته على نشر إبداعاته في مجلة ثقافة الأدب التي كانت تصدرها آنذاك, وأصدر أول عمل روائي عام1944, الغابة في ريعان ازدهار آنذاك ، وأعفي من الخدمة العسكرية لأنه أبلغ اللجنة الطبية أنه مصاب بالدرن.
ثم درس القانون في جامعة طوكيو وتخرج فيها عام1947, والتحق بعدها بوقت قصير بوزارة المالية كموظف, غير أنه سرعان ما استقال من الوظيفة الحكومية ليتفرغ للكتابة الأدبية وتدفقت رواياته وقصصه القصيرة ومقالاته, وكانت رواية اعترافات قناع نقطة التحول في مسيرته الأدبية ثم تلاها بـ ثلج الربيع وسقوط الملاك والبحر الذي لفظه البحر وصوت الأمواج ثم حديقة المعبد الذهبي وشارك في عدة أفلام منها خائف من الموت ويوكوكو وهيتوكيري وتزوج في عام1958 وأنجب أبنا وابنة.
وبالرغم من أن ميشيما لم يؤد خدمته العسكرية إلا أنه كان يدعم التيار الذي ينادي بإعادة عسكرة اليابان مرة أخرى بعد نزع سلاحها عقب الهزيمة والتحق بمجموعات يسارية وأثار استياء التيار اليميني بسبب معتقداته السياسية الراديكالية.
ثم انتحر ميشيما عام1970 على طريقة الساموراي الهاراكيري، حيث يشق الساموراي بطنه بنفسه من أعلى إلى أسفل ومن اليسار إلى اليمين, رغم أنه كان في قمة مجده الأدبي ولم يتجاوز عمره الـ45 عاما!
_________________
* عن (الأهرام الثقافي)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *