* محمد بشكار
ثمة من الشعراء من لا يستطيع مشياً قيد قلم، حين يندلق من لبوس القصيدة، فيشعر ذاته عارية من كل معنى، ما لم تسعفه ذهنية القريحة الأمَّارة بالتخييل، بنص شعري قد يبثه ضمنيا حتى رأيا نقدياً؛ ولكن بالمقابل، ثمة من الشعراء، من يجيد الرقص على حبل الأدب بالقلمين، وكلما نبغ شاعراً ازدادت عبقريته في التفتق ناثراً؛ ولنا في محمود درويش دليل أسطع مازال إلى اليوم يكسر الحجر…!
ليس ما يخلّفه الشاعر من نثر مجرد سِقْطَ حصاد، يملأ حوصلات العصافير في غفلة من ناطور النقد الأدبي؛ بل إن ما يعتبره بعض الواهمين سِقْطاً، يصبح مع تصرُّم الزمن، رؤى وتصورات وجواهر نظرية، تنحو طبيعياً باتجاه التقعيد، لتغدو إواليات وظيفية لمقاربة النص الأدبي؛ شعرا أو نثراً، ويتضح أن الشاعر الأصيل والحقيقي، هو بفطرة القلق و وسواس الإبداع، ناقد عظيم، ينطلق من تجربته الذاتية التي اختبر مساراتها الخفية والثرية بكعب عال، ليتشوَّف بأسطرلاب بعيد المدى ثقافيا ورؤياوياً، إلى تجارب أنداده من الشعراء؛ ولقد كشف عن لُقيا ثمينة، الناقد المغربي الدكتور «حسن الغرفي«، حين قطف غصناً ذهبياً من الشجرة الأسطورية للشاعر العراقي الكبير «بدر شاكر السياب»، وأعني المؤلَّف الذي أطلقه أخيراً الغرفي ضمن سلسلة «كتاب المجلة العربية بالسعودية»، ويحمل عنوان: «كتابات السياب النثرية»؛ لندرك عميقا أن الشاعر مهما كان كبيرا وذائع القصائد إلا أنه يبقى غامضا كالرُّقى، ما لم يخرج على الناس بوجهه الآخر النثري، لتكتمل الصورة والمرآة معا؛ ولا أخفيكم نثرا وشعرا أيضا، إذا جزمت أن كل ورقة من هذا الكتاب، تصلح رسالة تنديد بليغة لزمننا الفايسبوكي الذي صارت تغمر مجاريه سيول الإسهال الشعري، دون أن تجد بين ظهرانينا وعياً نقدياً يضمدها بصريح العبارة، عسى تعود إلى رشدها؛ بل إن حتى بعض النقاد الأدبيين، الذين أصبحوا مجرد نَقَدَة، بعد أن كانوا مشهودين بالصرامة في تقويم جمالية الإبداع الشعري، ابتلعتهم الموجة الفايسبوكية، فأعطوا شرعية اللقب لمن لا يستحق، وما تبقى منهم إلا بعض زبد وصَدَف خال من اللؤلؤ…!؛ حتى عجَّت الساحة الثقافية بكائنات انتزعت لقب الشاعر لمجرد أنها أصدرت ديواناً، لو أمعنت في استقرائه سيميائيا، لن تجد فيه إلا اسم المؤلف قيد حياته، ودار النشر، وأوراقا محبَّرة بين غلافين، ليبقى الشعر هو الفقيد الوحيد في هذه الصناعة التجارية التي لا أعرف حقاً من يدفع ثمنها…!؛ إنها كائنات غير شعرية، تسبق الظل طولا وعرضا، وتعيش وهما كبير لا يمكن استئصال ورمه الخبيث من الأذهان ولو بالملقاط؛ وقد استشرى فعلا في زمن فقدنا فيه رأياً صعباً مثل السياب، الذي يقول في تقديمه لشاعر شاب: «سيصبح شاعرا له شأن – أنه شاعر أصيل أعني أنه لا يتأثر بكل شاعر قرأ له – شأن أغلب الشعراء أول نشأتهم – ولا يسرق كل معنى يراه جميلا عند غيره من الشعراء. ولقد صادفت في حياتي بعضاً من هؤلاء الشعراء اللصوص المُقلِّدين. إنهم يزيفون تجربتك التي نزفت دماً من أجلها ثم ينسبونها لأنفسهم ويقرأوا عليك، بعد ذلك، قصيدتهم الهزيلة المزيفة، ويسألونك رأيك فيها… بكل وقاحة وصفاقة»؛ إن كتاب الدكتور حسن الغرفي حول السياب ناثرا، يضخ دماً جديداً في قيم أدبية كانت أشبه بكتاب الأساطير الذي يتأبط حلمه شاعر المطر، ومن هذه القيم الإنسانية النبيلة؛ الأصالة والإلتزام في الإبداع الأدبي شعراً أو نثراً؛ وبدونهما حتما سنفقد أنفسنا بين جمهرة الأشباه والأنصاف الذين يفيضون من كل محبرة، بأسطر الكلمات دون معنى..!
___________________
* عن الملحق الثقافي لصحيفة العلم المغربيّة.