قراءة فـي كتاب (يوميات المدن) للطفية الدليمي



د. إشراق سامي

سيرة للمدن ام سيرة للروح تبدأ لطفية الدليمي كتابها (يوميات المدن) بسرد مكثف، المرأة الغريبة في الارض الغريبة تسير على ايقاع الروح، وتحط فوق أنغام مقامات عراقية تخفف بعض الصقيع النائم على جدران الحياة بعيداً عن الوطن والأحبة تبدأ لطفية مذكراتها بسرد عالي الذاتية يؤرخ للإحساس ولا يهتم لتفاصيل الزمان والمكان بقدر ما تعلق ذلك بالمشاعر، فباريس هنا مدينة توحي بوحشة القلب، الصمت والبرد فيها تفوق قدرتها على الابهار بالجمال والحرية، باريس مدينة العطر والحياة والمزاج (ليس بين الغريبة والمدينة غير هبوب العطر وشذا الخبز ورائحة القهوة ، العطر غوى، والخبز حياة، والقهوة مزاج وهي في تيه ومتاهة، لا تغوى ولا تحيى ولا يرق لها مزاج) مذكرات المدن12.

العودة الى خزين الذاكرة باللغة وبالنغم وبالعطر كان وسيلة الكاتبة لمقاومة اللقاء الاول مع الغربة اليست الكتابة هي إعادة صناعة الحياة، وليست هي فعل المجابهة مع الموت وتحديه بذات قدرة الانبياء والمبشرين والمغيرين.

يفتح عنوان الكتاب (يوميات المدن) الأفق الدلالي نحو تصور لكتابة تنظم مواعيد الزمن وتحسب أنفاس اللحظات مؤرخة مسجلة متوهجة بالدقة والحفظ.. لكن الكتاب يطرح أسلوبا مختلفا للسيرة، إنه الحكي الذي يؤرشف الاحساس لا الواقع فهو سرد فني عالي الشعرية يتوخى ان ينقل القارئ الى احساس الكاتبة وهي تعيد صياغة الزمن وفق قدراتها على التقاط التفاصيل البالغة في الانسانية والعمومية مستندة الى لغة خلابة واسلوب ساحر في اعادة صياغة التاريخ والتراث.

“يعرف البشر ان قدرهم مكتوب وان حيواتهم جرى ترتيبها من قبل وانه محكوم عليهم بالبحث عن معنى ليس بالمستطاع ادراكه والحياة ذاتها تحصيل حاصل لان كال شيء يمكن القيام بها والتفكير فيه او قوله سبقت كتابته في الماضي في احد كتب المكتبة. بورخس”.120

البحث عن المعنى هو ما تقوم به لطفية الدليمي في تدوين هذه الايام انها طريقتها في الحوار الجواني معتمدة على ميل صوفي عرفاني يذيب الاسماء و الازمان فيجعلها غائمة وغير منتمية بالتحديد.

اعتمدت لطفية على هذه القضية في كتابة يوميات المدن، إنها يوميات امرأة في عالم يعج بالفوضى والجنون إنها امراة من بابل أو سومر أو من نينوى، إنها امرأة من وهج الثقافة والنور في زمن يريد إسدال خمار الظلم والظلام والجهل، امرأة تحكي تجربتها مع المدن.. الأنثى هي الحضارة والمدينة هي رمز الحضارة، هكذا امتزجت مقدرات المدن وحنينها للجمال والحرية مع قدر امرأة كانت على حافة خطرة من الوعي بإحداث تواجهها يوميا داخل مدينتها (بغداد).. أحداث من لهب وموت وقبح فتتمسك بكل تمائم المحبة للارض والوطن.. لكن البشاعة تحمل لها بشرى الرحيل بعيدا خلف ابواب المطارات والمدن الباردة، سفر المضطر الواجد على وطنه.

سجل الكتاب حوارا مع بعض الافكار المجردة التي تتصل بالموضوع العام مثل الحديث عن المغلق والمحدد ثم الباب بوصفه جسرا نحو العبور الى الرصيف أو الضفة الاخرى ترتبط مثل هذه المفاهيم بالوطن الذي يعيش وضعا ملتبسا بسبب الانغلاق في دوائر أفكار موصدة وتدور في فلك واحد هو الممنوع والمحرم وباسمه أيضا يستسلم الانسان راضياً راضخاً لقدره ولنهايته.

اليوميات تأخذ شكلها المعتاد في الكتابة في الفصل الأخير الذي أسمته الكاتبة يوميات الهلع اذ تسجل بالساعة أحداث تدور في يوم بغدادي ساخن لامرأة تعيش لوحدها في ايقاع عنف وفوضى وإرهاب مادي ومعنوي، تمر الساعات ثقيلة محملة بالتوجس ومفتوحة الخيال نحو كل الاحتمالات سرد ياخذ الانفاس ويرسم صورة مؤثرة عن الحياة تحت خط الرعب.

يوميات المدن شهادة عصر حقيقية وبالغة الاحساس ترتبط بالزمان وتغادره ترتبط بالمكان لتختزله في لحظة وفي احساس انساني مؤثر.. إنها سيرة جماعية أو قصة صراع بين الوعي الحاد بتفاصيل الوجع الانساني، وبين الرغبة بالحياة كأحلى ما يكون ألقها ونورها.
________
* العالم العراقية

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *