من العقل ( المستقيل ) إلى العقل ( المتحوِّر)


مروان العياصرة *

(ثقافات)

في ثمانينيات القرن العشرين، كانت الساحة الفكرية العربية تشهد حالة متقدمة من الوعي على المستوى الفكري المتعلق بقراءات الفكر العربي والعقل العربي وتحدياته ومخاضاته، فبرزت المشروعات الفكرية للراحل المفكر محمد عابد الجابري، والراحل المفكر محمد أركون، والطيب تيزيني وحسن حنفي وبعض الأسماء الأخرى القليلة من القامات الفكرية العربية التي أسست وأنتجت مشروعات فكرية فلسفية عربية أصبحت فيما بعد العمود الفقري لمشروع النهضة غير الناجز – للأسف -.
فمن نقد العقل ( الجابري ) إلى نقد نقد العقل ( طرابيشي )، ومن قراءات التراث والإسلاميات ( محمد أركون ) إلى تفكيك الخطاب الديني ( نصر حامد أبو زيد )، وتفكيك الأفكار والأيديولوجيا ( عبد الله العروي )، إلى تحليل المجتمع العربي المعاصر ( حليم بركات )، بدت الساحة الفكرية الفلسفية العربية غارقة في مساجلات وجدليات لم تسهم في مجموعها في بناء مشروع نهضوي عربي متكامل، بل كان كل مفكر على حدة صاحب مشروع مستقل، له أدواته وبنيته ونسقه الفكري الذي قد يتقاطع من أنساق فكرية لدى مفكرين آخرين، لكنه لا يصل إلى المستوى المقبول.

حين شرع الجابري في دراسة البنى الثقافية والسياسية، وحتى اللغوية، ووصل في مخرجات قراءاته الأركولوجية العمقية إلى نقطة الحسم في الحكم على العقل العربي بأنه عقل ( مستقيل )، بدا الأمر مع هذه الخلاصة البحثية، وكأنه حكم على عقم العقل العربي، ما دعا بعض المفكرين من أمثال ( جورج طرابيشي ) إلى الدفاع عن العقل العربي ليس بوصفه عقلاً، وإنما بوصفه دالاً من دوال المعرفة والمنجز المعرفي بين العالمين ( العربي والغربي ) وما بينهما من تباينات بنيوية أدت بالجابري إلى الدخول في أتون ثنائيات تقابلية من مثل إشكالية العقل المكوِّن والعقل المكوَّن، وإشكالية التفكير بالعقل والتفكير في العقل، والاشكالية الأبستمولوجية ما بين العقل العربي والعقل الغربي (اليوناني ـ الاوروبي)، واشكالية التكوين والتدوين، وغيرها من الإشكاليات المتعددة، التي أغلقها الجابري بحسب طرابيشي، في حين أنها ستبقى تشكل ( عقبة أبستمولوجية ) ما لم يتم تفكيكها قبل إصدار الحكم على العقل العربي بوصفه عقلاً محضاً، معترفاً بأن رأي ( علي حرب ) في التفريق بين مصطلح ( العقل ) ومصطلح (الفكر ) ضروري ومهم، طالما أن الجابري نفسه دخل أساساً في بحث إشكالية العقل والنقل والبرهان والعرفان.

يبدو طرابيشي واضحا وصريحا، والثوابت البنيوية التي كانت لدى الجابري حاول على مدى ربع قرن من الزمان تجاوزها حين اشتغل على نقد نقد العقل العربي وإشكالياته في خمس مجلدات كلت مشروعه الفكري المضاد. ولأنني لست في مجال الدفاع وبسط الأحكام ومناجزة هؤلاء الكبار، إلا أن الصيرورات الراهنة تتكفل – وبدرجة عالية من الضرورة – بإعادة طرح النظريات والمشروعات الفكرية، من خلال قراءة التحولات المعاصرة في البنى الثقافية والأخلاقية، وعلى المستوى العملي، لأن الحاجة إلى الوقوف على التحولات من وجهة نظر الفكر العربي ومنجز مفكريه الضخم قد يسهم في تشكيل رؤية حقيقية وصادقة عما يحدث، خاصة وأن الإشكالية التي دعت الجابري للقول بالعقل المستقيل، والتي تأتي على شكل السؤال التأسيسي التالي: هل استقالة العقل جاءت إفرازاً لعوامل خارجية، نستطيع أن نحملها للـ ( آخر )، بكل جرأة وثقة، أم أنها مسألة داخلية محكومة بآليات ذاتية، علينا أن نتحمل كافة تبعاتها، وأن العقل العربي وحده الذي يتحمل مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟، تماما مثلما تشكل السؤال الأساسي التالي في مجرى التحولات الراهنة ( هل جاءت هذه التحولات الدراماتيكية نتيجة مؤثر وعامل خارجي عمل على استفزاز الداخل العربي، أم أن المسألة متعلقة حتماً بآليات داخلية سياسية وثقافية واجتماعية عملت عبر عقود طويلة على مراكمة وتكثيف الداخل العربي حتى أصبح قابلاً للانفجار والتحول ..؟)، وهو سؤال تأسيسي أيضاً بالمعنى النظري، ما دام لم يلق اهتماماً واشتغالاً مناسباً عليه ليحقق مستواه التطبيقي.
تبدو القناعة بأن العقل العربي عاش بالفعل التحول من الأيديولوجيا إلى الابستمولوجيا، وتحول من التدوين إلى التكوين، ومن النقل إلى العقل، تبدو قناعة خالية من دسم المبالغة أو المغالطة، والدرس الفلسفي العربي يجب أن يتحول من الجدل في ثبات أو تحول العقل إلى درس هذا التحول وأشكاله وصوره وأبعاده، ومؤثراته وحدود تأثيراته، لذا أجدني أقرب ما أكون إلى ( طرابيشي ) في مأخذه على الجابري في أهمية التحول من ( التفكير في العقل ) إلى ( التفكير بالعقل )، وعليه يجب إعادة بناء السؤال التأسيسي في الدرس الفكري الفلسفي العربي دون الحاجة إلى الإحالة التاريخية في مقابسات الجابري أو مقايساته بين الشروط التاريخية للحضارات، إلا بمقدار ما أضاءت لنا هذه المقايسات من أفكار ورؤى مهمة، لكنها لا يمكن أن تكون شرطية حدية في تفسير إشكالياتنا الفكرية.
مع كل ما اشتملت عليه أعمال الجابري من أهميات وضرورات التأسيس، إلا أن بقاء الاشتغال الفكري محصوراً في حدود المقايسات التاريخية والثنائيات المغلقة يجعلنا نصل إلى حالة من ( تسييج ) الفكر وتطويقه، بما يجعل كل نواتج البحث والدرس داخل هذا السياج غير قادرة على تقديم قراءات فكرية للمعاصر والراهن إلا في حدود ( التقشير ) السطحي للأحداث والصيرورات، لذا، تبدو الحاجة والضرورة ملحة لإعادة إنتاج سؤال تأسيسي آخر يتعلق بالصيرورات والتحولات الناتجة عن عقل ( متحول ) لا ( مستقيل ).

*كاتب وشاعر أردني مقيم في البحرين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *