* فاطمة ناعوت
معرضُ القاهرة الدولي للكتاب. الفضاءُ الذي أنتظره من العام للعام، منذ كنت طفلة. طوال العام، أقتطع من مصروفي و(أحوّش) القرشَ علي القرش، انتظارًا لإجازة نصف العام، حيث تكون المكافأةُ بزيارة المعرض. بعد تعبِ شهور طوال، وأوامرَ بالاستذكار طاغيةٍ من أمي، التي كانت تحظرُ عليّ قراءة أي كتاب سوي كتاب المدرسة، نشدانًا للتفوق. لكن (الحيل الماكرة) لا تنتهي من أجل عيون الكتاب. أولُّها تخبئةُ الكتاب المنشود داخل الكتاب الدراسي، وقراءته خلسةً، بعيدًا عن عيون أمي. كانت المعضلةُ في الكتب الضخمة، التي لا تستوعبها الكتب المدرسية النحيلة. فكان أن قطّعت (الفردوس المفقود) إلى ملازم صغيرة خبأتُها في صندوق اللعب تحت سريري. وكلَّ ليلة أدسُّ ملزمة فردوسية في كتاب التاريخ (الذي لا أحبه)، وكأنني أعاقبُ ) ملتون( علي ضخامة ملحمته الشعرية. ولا أعبأ بنظرات الغضب التي كانت تتطاير من عينيه الزرقاوين وهو محبوس في كتاب التاريخ المدرسيّ )المزوّر.
ثم جاء دور الميثولوجيا الإغريقية التي فتنتني صغيرة، ومازالت ملهمة لي حتى الآن.
(صِعِب)عليّ أن أُقطّع الإلياذا والأوديسا. ربما رحمةً بهوميروس الأعمى الذي خشيتُ أن يتألم إن حبسته داخل كتاب المدرسة. وربما خوفا من كبير الآلهة زيوس وزوجته الإلهة (هيرا) ومكائدها. ربما أمرت جبل الأوليمب بأن ينهدم فوق رأسي وأنا نائمة، إن حبستها في كتاب. أو ترسل ورائي العملاق ذا المائة عين ليعذّبني قبل أن يموت وتتحوّل عيونه إلي دوائر فوق ريش الطاووس. أو تأمر إله البحر (بوسيدون) بأن يرميني في جوفه وأتوه كما تاه أوديسيوس في الأمواج عشر سنين. وربما تربطني بين جبلين وتجعل طائر الرخّ ينهش كبدي إلي الأبد. أو تعطيني (صندوق النوم)الأبديّ، كما فعلت فينوس مع سايكي.
ولأن الخوفَ أبو الابتكار، كما تعلمون، ابتكرت حيلة جديدة للتحايل علي أوامر أمي الصارمة. كنت (أمثّل)النوم وأمي تغطيني و(تكلفتني)في البطاطين ثم تطفئ نور غرفتي وتخرج. وما أن تغلق الباب وراءها، حتى أفتحُ عينيّ وأظلُّ أحملقُ في السقف المظلم ربع ساعة، أنشغل خلالها بتسميع قطعة من (النصوص) من دروس العربي الذي أحبه، أو أرسم في ذهني خريطةً من كتاب الجغرافيا التي لا أحبها (كيلا يؤنبني ضميري كثيرًا). بعد مرور الدقائق، أكون علي ثقة من نوم أمي. لكن يجب التأكد من ذلك. أتسللُ من الفراش. أفتح شيشَ نافذتي قليلا. أختلسُ النظرَ إلى نافذة أمي. وبمجرد أن ينطفئ نور غرفتها، أنزل تحت سريري، وأشعل الأباجورة الصغيرة التي أخبئها في صندوق اللعب أيضًا، ثم أنبطح فوق الكتاب، وأبدأ طقس (الالتهام) يا ماما، إن كنتِ تقرئين هذا الآن من الجنّة حيث أنتِ، بإذن الله، فسامحيني.
سنواتٌ طوال أسرني فيها (أخيل) السريعُ الخُطو، وأوديسيوس الفارس النبيل. كنتُ أنتظرُ عودته إلي (إيثاكا) مع زوجته الجميلة بانيلوب. أغزل معها علي النَّول صباحًا، فإن جاء الليلُ نقضتُ معها ما غزلناه في النهار.
ها أنا في معرض الكتاب. الفضاء الآسر الأثير. فأين الناس؟ أين الزحامُ الحاشد الذي اعتدنا عليه؟ ولماذا تكسو وجوه المصريين تلك السحابةُ الغائمة من الحَزَن؟ هل هم، مثلي، حزانى لأنهم يزورون معرض الكتاب دون أمهاتهم، اللواتي غيبهنَّ الموتُ؟ أم تُراهم حزانى، مثلي أيضًا، علي أمٍّ أكبرَ من كلِّ الأمهات، توشكُ أن تموت؟ أكاد أقرأ في عيون الناس أنهم يبحثون عن مصرَ التي يعرفونها، فلا يجدون إلا جسدًا مهزومًا مهزولا يكاد يُسلِم الروح! هل تموت البلدانُ كما تموت الأمهات؟ حتي وإن كانت البلدانُ تموت، فهل تموت أمُّ البلاد وأمُّ الدنيا؟ فليمت كلُّ من يرومُ لها الموتَ، ولتحيا مصر.
* شاعرة وأديبة من مصر
. عن أخبار الأدب