د. عبد الرضا علي *
(ثقافات)
بعضُ السهلِ الممتنعِ من القصائد والقطع ِ الشعريّة لا تحتملُ أيّ شرحٍ أو تفسيرٍ، أو تحليل، إلّا ما كان لصيقاً بتشكّلاتها الإيقاعيّة، لوقوعها ضمن دائرة البناء الموسيقي للكون، وإن تقبّلت التقييمِ باعتباره معياراً ينبغي تأشيره بوصفهِ حُكماً توصّل إليه النقدُ معاينة ً، أو الناقد اشتغالاً.
ولديَّ (في مختاراتي التي أجمعها بين الحينِ والآخر) بعضٌ من تلكَ القصائد والقطع ِ التي أراها حريّة ًبالبقاءِ بعيدةً عن أقلامِ من قد يخدشها، أو يزري بها من أولئك الذين أصيبوا باستسهال الكتابة، والاسترسال في الكلام غير المترابط، على نحوٍ يستهين بذائقة القارئ، والضوابط المنهجيّة للنقد.
وهذه النصوص تشيعُ في كلّ عصور الأدبِ والثقافة، بداءةً من عصر ما قبل الإسلام، وانتهاءً بالراهن المعاصر، (ويمكن استمراره إذا بقي الشعرُ رصيناً وتخلّص من الغموض المفتعل) ، كما في قصيدة الشاعر الجاهلي المنخّل اليشكري في هند بنت عمرو بن حجر الكندي التي يقولُ فيها:
فَدَفَـعْـتُــــهَا فتَـدَافَعَـــــــــــتْ
مَشْــــــيَ الْقَطَاةِ إِلَــى الْغَدِيرِ
وَلَثَمْــتُهَا فَـتَـنَـفَّسَـــــــــــــتْ
كَـتَـنَفُّـــسِ الظَّبْـــــــيِ الْبَهِيرِ
فَدَنَــتْ وَقَالَـــتْ يَـــــــا مُنَخْـ
ـخَلُ مَا بِجِسْـــمِكَ مِنْ حَرُورِ
مَا شَــــفَّ جِسْمِي غَيْرُ حُـبـ
ـبِكِ فَاهْدَئِـي عَنِّي وَسِـــيرِي
وَأُحِبُّـــهَا وَتُحِبُّنـــــــــــــــِي
وَيُحِبُّ نَاقَتَها بَعِيــــــــــرِي
فَإِذَا انْتَشَـــــــــيْتُ فَإِنَّنِــــــي
رَبّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّـــــــدِيرِ
وَإِذَا صَــحَوْتُ فَإِنَّنِــــــــــي
رَبّ الشُّوَيْهَةِ وَالبَعِيـــــــرِ
وَلَقَدْ شَـــــــــــرِبْتُ مِنَ الْمُدَا
مَةِ بِالْقَلِيلِ وَبِالْكَثِــــــــــــيرِ
يا هِنْدُ مَــــــــنْ لِمُتَيَـــــــــّمٍ
يَا هِنْدُ لِلْعَانِي الأَسِــــــــــيرِ
فهذه القصيدة لا تحتاج إلى ناقدٍ يحلّلها، ويشرحها، ويفسّرها، لأنّها تحملُ من الوضوح ما يجعل أيّ كلام عنها يبدو مقحماً غير مبرّر.
كذلك الحال في قصيدة الشاعر الإسلامي(الخارجي) قطري بن الفجاءة (ت 79هـ) ذات المستهلّ:
أقولُ لها وقد طارتْ شَــعاعا
من الأبطالِ ويحكِ لن تُراعي
فهي الأخرى لا تحتمل التأويل، لأنّه سيزري بصورها الشفّافة الصارخة بالوضوح، ومثلُ هذا يُقال في أكثر من قصيدة ومقطوعة من روميّات أبي فراس الحمداني (320- 357هـ / 932- 968 م) لاسيّما قصيدته ” لولا العجوز بمنبجٍ” ذات المستهلّ:
لولا العجوزُ بـمنبجٍ
ما خفتُ أسبابَ المنية ْ
وقطعته الحزينة ” أبنيّتي” :
أبنـيَّـتـي لا تـجـزَعــــــي
كلّ الأنـامِ إلــــى ذهـــابْ
أبنيّـتي صبرا ًجميـــــــــــ
ـلاً للجـليـلِ من المـصـابْ
نوحي علـيَّ بـحـســــــرةٍ
من خلفِ ستركِ والحجابْ
قولـــــــــي إذا كـلـمـتِـنـي
فعييتُ عن ردِّ الجـــــوابْ
زينُ الشـــــــبـابِ أبـو فـرا
سٍ لم يمتّعْ بالـشـــــــبـابْ
فهي رثاءٌ للنفسِ يملأ مآقي متلقّيها بالدموع دونما حاجةٍ لنعي الناعين.
وإذا كانت قصيدة أبي فراس قد أوضحت حزن الذات الشاعرة وهي تستشرف موتها (وإن كان ظنّاً نتيجة جزع الأسر) من غير وساطةِ أحد النقّاد، فإنّ قصيدة بدر شاكر السيّاب (1926- 1964م) الموسومة بـ ” ديوان شعر” ذات المستهل:
ديوانُ شــعر ٍملؤهُ غزل ُ
بين العذارى راح َ ينتقل ُ
قد أوصلت تمنّي الذات الشاعرة للقرّاء بانسيابيّة محبّبة لم تكن بحاجةٍ لمن يخدشها بإدّعاء التأويل، أو التوضيح، أو التحليل، لأنّها عنوانات مؤكّدة للتمحّل.
وإذا كان ما مرّ قد وقع في دوائر: الحبِّ (قصيدة المنخَّلّ)، والذات الخائفة (قصيدة ابن الفجاءة) والحزن الممضِّ (قطعة أبي فراس) فهناك من القصائد ما يقع في دائرة الممازحة، أوالتفكّه ، أوالدعابة ، كما في قصيدة الجواهري(1900؟- 1997م) في مظفّر النوّاب حين حاول النوّاب ( عندما كان ضيفاً على الجواهري عام 1970 م ) استدراجَ غانيةٍ تشيكيّة إلى شقته ، إغراءً برسمها :
وقالَ مظفرُ النواب يومــــــــــــاً
لفاتنةٍ مــن الغيدِ الحســـــــــــان ِ
من التشيكِ اللواتي لستَ تـدري
بهنّ المحصناتِ من الزوانـــــي
هلمِّي أرسمنْكِ غداً فقالـــــتْ :
غـداةَ غدٍ وفي المقهى الفلاني
فقالَ: بمرسمي حيثُ اسـتقامتْ
من الرسمِ المعاني والمبانــــــي
فقالتْ: لا، ومن أعطـــــاكَ ذهناً
وعلّـمـــــكَ التفننَ في البـــــــيانِ
أداة الرســــــمِ تحملُـها ســلاحــاً
على فخذيك َمشحوذ َ الســــــنان ِ
ولكنْ كلُّ ما تبغيـه ِ منـِّــــــــــــــي
خفوتَ الضوءِ في ضَنَكِ المكان ِ⁽¹⁾
*****
وقبل أيّامٍ ضممتُ إلى هذه المختارات مقطوعة للشاعر محمّد البغدادي كان قد نشرها في نافذة تواصله الاجتماعي (الفيسبوك) بعد أن وجدتُني أعودُ إلى قراءتها بين الفينةِ والأخرى دونما كللٍ أو ملل، لأنَّ ما فيها من صورٍ توليديّة واضحة جعلها لوحة ًناطقةً تشرحُ لمتلقّيها نفسها بنفسها بانسيابيّة رومانسيّةٍ شفيفةٍ أغلقت الباب على أيّ تأويل مفتعلٍ، أو تمحّلٍ نقديّ لا موجب له، أو سفسطة لا مبرّرَ لها، وسيقف القارئ عندها ليتأكّد من أنّ ما صنعته هذه الأبيات من مفرداتها المألوفة ما جعلها ترفض اقتراب المتمحّلين منها، لأنّ اقترابهم يزري بجمالها، ويُعتّم على ما فيها من إشراق، وهذه الأبيات هي:
أرســــِـــلي فرحة بحجم اليَدَيْنِ
وبحجمِ الجمالِ في المُقلَتَـــــــينِ
أرسِلي من شفاهِكِ العسلَ الشافي
… فإنَّ الشــــــــــفاءَ في الشَّفَتَيْنِ
أرسِلي قُبلةً تُعلِّمُني السُّـــــــــــكْرَ
…وإنْ شِئْتِ أرســـــــــــلي قُبلَتَيْنِ
وكما ألمعنا في مستهل هذه المقالة، فإنَّ المستساغ في مثلِ هكذا قصائد وقطع هو الوقوف عندَ تشكيلها الإيقاعي ليس غير، ولعلّ هذه الوقفة تصبّ ُ في ثقافةِ كاتب النصِّ الموسيقيّة ومعرفتهِ العروضيّة، ولا تصبّ ُ في تفسير النصِّ وتأويله، لأنه لا يحتاج إليهما، ولا إلى تمحّلِ المتمحّلين.
*****
ما يجعلنا نتوقّف عندَ إيقاع هذه الأبيات هو التدوير السائغ في إيقاعها، ولن يبين ذلك إلّا حين تُقطّع تفعيلاتها تطبيقيّاً، فهي وإن كانت على “الخفيف” الذي يميل إلى النثريّة، لكنَّ التحكّمَ في هذه النثريّة ابتعاداً واقتراباً يعودُ إلى مهارة الشاعر، فإن كان ذا أذنٍ مرهفةٍ فإنّ هذا الإرهاف سيكون دريئة بوجهها، وإن كان الشاعرُ تقليديّاً في استخدامِ البحور، فإنّه قد لا ينجو منها.
وكما قلنا فهي على “الخفيف” ، لكنّها على تشكيل الخفيف الصحيح تحديداً، وهو ما كانت عروضه صحيحة، وضربه كذلك (فاعلاتن) مع مراعاة أنّ زحاف “الخبن” كثيراً ما يدخل في جميع أجزائه : حشواً وعروضاً وضرباً، فإذا دخلَ على “فاعِلاتُن” صارت “فَعِلاتُن” بكسر العين، وإذا دخل على” مُسْتَفْعِلنْ” صارت “مُتَفْعِلنْ”، ونُقِلتْ إلى “مَفاعِلنْ” المساوية لها بالحركات والسكنات، فوزن الخفيف لمن لا يعرفه هو ⁽²⁾:
فاعِلاتُنْ مُسْتَفعِلنْ فاعِلاتُنْ فاعلاتُنْ مُسْتَفْعِلنْ فاعِلاتُنْ
وتقطيع الأبيات:
أرسـِـلي فرحةً بحجمِ اليَدَيْنِ
فاعِلاتُنْ مفاعِلنْ فاعِلاتُن
وبحجمِ الجمالِ في المُقلَتَـــــينِ
فَعِلاتُنْ مفاعِلن فاعِلاتُنْ
أرِسِلي من شفاهِكِ العسلَ الشا
فاعِلاتُنْ مفاعِلنْ فعِلاتُن
في فإنَّ الشـــــفاءَ في الشَّفَتَيْنِ
فَعِلاتُنْ مفاعِلن فعِلاتُنْ
أرسِلي قُبلةً تُعلِّمُني السُّــــــــكْ
فاعِلاتُنْ مفاعِلنْ فعِلاتُن
رَ،وإنْ شِئْتِ أرســــــلي قُبلَتَيْنِ
فَعِلاتُنْ مفاعِلن فاعِلاتُنْ
ومن يدقّقُ في الأبياتِ جيّداً يلمحُ أنّ محمّد البغدادي واحد ممّن يمتلكون أذناً موسيقيّة مرهفة تستطيع أن تبعد النثريّة َعن الخفيف وتجعلهُ قريباً من الغنائيّة، ولعلَّ ما تمتلكُه ذائقته من إرهافٍ غريزي جعله ميّالاً إلى الاهتمام بالإيقاع الداخلي بالقدر نفسه الذي كان عليه في الإيقاع الخارجي (الوزن)، فشدّدَ على التكرار في ” أرسلي” أربع مرّات ممّا ولّدَ ما يُشبه القوافي الداخليّة، فضلاً عن تشديده على التجمّعات الصوتيّة لحروف اللام،والياء،والنون، والفاء، والسين، والتاء، والشين، وما سواها، إلى جانب نباهتهِ في جعلِ حرفِ النون رويّاً لتلك الأبيات.
وعلى وفقِ ما مرَّ فإنّ النتيجةَ التي يمكن تأشيرها هي أنَّ النصوصَ التي لا تحتمل التأويل، أو الشرح تقع في بعض قصائد شعر الشطرين، وليس في أيّ أسلوبٍ آخر، وقولنا: (في بعض قصائد شعر الشطرين) احتراز من تعميم الظاهرة على جميع قصائد هذا الأسلوب،ولعلّ قصيدة نزار قبّاني (1923- 1998م) الموسومة بـ” أنا يا صديقة” التي يقولُ فيها:
هل في العُيونِ التونسيّةِ شاطئ
ترتاحُ فوقَ رماله ِالأعصــــابُ؟
أنا يا صديقة ُمتعبٌ بعروبـــــتي
فهل العروبـــــــة ُ لعنة ٌ وعِقابُ؟
وقصيدة السماوي الكبير يحيى الموسومة بـ” القتلى لا يُحييهم الاعتذار” التي يقول ُ فيها:
فـيـمَ اعـتـذارُكِ ؟ مـا أبـقـيـتِ لـيْ مُـتـعـا
تُـغـوي الـعـيـونَ بـنجـم ٍضاحِكٍ سَـطـعـا
هِــبي المــــسَرّةُ عـادتْ وانـتهى زَعَـل ٌ
وأشــمَســـتْ ظـلـمـة ٌ والودُّ قــد رجَعــا
تقعان ضمن قصائد هذه الظاهرة التي لا ترتضي التأويل الذي يزري بالنصِّ المدهش الجميل .
هوامش
ــــــــــــــــــــ
(1) أبيات الجواهري برواية رواء الجصّاني في كتاب ” الجواهري أصداء وظلال السبعينيات” ص 44، ط1، منشورات بابلون، براغ، 2001م.
(2) يُنظر كتابنا : ” موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه “، 135 وما بعدها، الإصدار الثاني، دار الشروق، الأردن- عمّان، 2007 م .
* ناقد من العراق