لكم لغتكم ولي لغتي


* كولالة نوري

بالنسبة لي الشعر أسلوب حياة وفلسفة خاصة بالشاعر، قبل أن يكون قوانين لغوية وعروضا وتفاصيل وقوافي كما قال جبران «لكم لغتكم ولي لغتي، لكم من اللغة العربية ما شئتم، ولي منها ما يوافق أفكاري وعواطفي، لكم منها الألفاظ وترتيبها.. لكم منها قواعدها الخاتمة، وقوانينها اليابسة المحدودة، ولي منها نغمة أحوال رناتها ونبراتها.. لكم منها العروض والتفاصيل والقوافي.. لكم منها ما قاله سيبويه والأسود وابن عقيل وما جاء قبلهم وبعدهم.. ولي منها ما تقوله الأم لطفلها.. والمتعبد لسكينة ليله .
أسلوب كتابة الشعر لا يبتعد كثيرا لدي عن أسلوب حياتي وطبيعة حياتي، المكان والزمان، لغة إضافية لأي لغة أكتب بها الشعر.. التجارب الإنسانية جزء لا يتجزأ من تفاصيل ذروة الكتابة، وذروة الكتابة هي الحرية. الحرية من خطاياك ومن أحزانك ومن رجعية أفكار تنبع أحيانا من أغوار عميقة، آتية من ترسبات اجتماعية مكتسبة، أو من أزقة التربية العائلية والمحيط، التي جبلت عليها وتحاول جاهدا على مر الأيام أن تكوّر نفسك بعيدا عنها حين لا يلائم تكوينك القابل للتغير دائما، الذي قد لا يوافق كليا ما جبلت عليه.
التوازن بين كل تلك العناصر السابقة والانتصار على جذب محددات الأفكار يقود للتفرد في تناول مواضيع بأسلوب يخصك فقط لكن في نفس الوقت يمسّ الكل.
لا يمكن فصل حرية الكاتب في الكتابة عن تشكيل الأسلوب، وحرية الكاتب تنبع أولا من الحرية العامة في المكان الذي يعيش فيه، والنظام السياسي يؤثر أيضا بشكل فعال في الأسلوب.. مثلا أسلوب التورية واحتمالية تفسير الجملة الشعرية بأكثر من معنى كانت تسيطر على أسلوبي أكثر في بداية التسعينيات وحتى بدايات الألفية الثانية أي بالتحديد قبل سقوط النظام الديكتاتوري القمعي في العراق. لكن ذلك الأسلوب بدأ بالتلاشي رويدا وحل أسلوب جديد في طريقة طرح الأفكار. ربما أسلوب أكثر وضوحا لكن أكثر حدية أيضا وقلقا أيضا.. وحزينا.
نضيف إلى محددات أسلوب الكتابة كوني امرأة أكتب في مجتمع ذكوري.. في بدايات كتابتي احتجت إلى فترة ليست بالقصيرة لأكون نفسي من دون رتوش أثناء الكتابة، ربما استطاعت الأجواء الأوروبية التي عشت فيها في مساعدتي لتخطي ذاتي الخفية أكثر، فأصبح أسلوبي في بعض كتاباتي ذاتيا، لكنها ليست بذاتية محضة بل ذاتية عراقية في منفى اختياري، أو شبه جبري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من انهيار القيم الثقافية، وخوفا على «عدم انحيازي» لجهة على حساب أخرى. كانت حصانة عملت عليها بوعي وسبق إصرار وترصد ضد كل ما يمكن أن يوجهني خارج إنسانية الكتابة حتى في أدق تفاصيل الذات.
بين فترة وأخرى تتغير عندي أجواء الكتابة.. هذه الطقوس تتبع مزاج لا أدركه إلى الآن، ولم أنتصر عليه أيضا حتى الآن.. وربما هذا من محاسن الكتابة لأن ذلك يحميك من تكرار الذات.
لكن ما يمكن أن يسجل هنا من حيث الثبات نوعا ما هو عدم وجود وقت محدد ومخصص كأن يكون نهارا أو ليلا. وربما هذا عائد أيضا لكثرة تنقلي هنا وهناك. الكتابة عندي تكوم مراحل الدهشة نحو شيء ما، فكرة ما، حادثة ما.. ومراحل الدهشة للمواضيع التي تؤثر علي لا تحدّد عندي بالليل أو بالنهار.. بل تعتمد على مرحلة وصول المفاجأة لدرجة الذهول الذي يتوقف عندها النظر «بالعين» لتنظر بفكرك وقلبك.
المشي مهم جدا لي لأقيس عليه حدود ذهنيتي للموضوع الذي أريد الكتابة عنه. في فترة من فترات حياتي حين كنت أسكن في مدينة الموصل في العراق كان من «العيب» أن تمشي امرأة كثيرا على الرغم من ذلك كنت أكتب لكن ليس بسهولة. كان لدي أصدقاء أدباء شباب من الموصل يتحدون تلك «الجريمة النكراء!»… كانوا يجدون لي حلولا لـ«شرعنة» المشي! وكنت بالتأكيد حينها لا أصل المسافات التي أريدها. وحين كنت أتوقف عن المشي لمدة طويلة كنت أتوقف تقريبا عن الكتابة أو أكتب وأمزق كثيرا! . في أحد الحوارات التي أجريت معي في تلك الفترة سألوني إن كنت أؤمن بمصطلح الكتابة الأنثوية والذكورية، فأجبت: «أنا لا أستطيع المشي لأنني امرأة فكيف أستطيع أن ألغي تأثير ذلك أثناء الكتابة..».
في فترة ما كنت أكتب بالضرورة على صوت الموسيقى، الآن أجند حواسي كلها مع الكتابة (السمع والبصر والفؤاد).
البرد عامل قوي بالنسبة لي لغزارة الكتابة وكأنني أحتمي بالقصائد.. حتى حين كنت في العراق وحتى 2004 والآن أيضا فإنني لا أستطيع الكتابة في الحر بسهولة.. لدي قصيدة اسمها «في الصيف لا تكتب القصائد». الثلج يلهمني جدا، كنت أتمنى دائما أن يكون الشتاء والبرد أطول فصول السنة..
وبما أنني ليس لدي عادة التدخين أو الشرب كما معظم الأدباء إلا أن لدي طقسا كتابيا ربما مضحكا أو مزعجا في حالات وهو تناول المكسرات (اللوز الفستق وحب الشمس إلخ..) أثناء الكتابة.
ليس مهما وجود الإنسان الذي أحبه قربي قبل الكتابة أي مع قرب بدئي في الكتابة، ربما وجوده أثناء الكتابة يسبب لي حساسية في تشكيل الحروف!
بعد الكتابة أكون وديعة، وأفكر في التمدد على شاطئ مثل رمل لا يزول بل يبقى كأرضية الساحل الذي يعانق البحر.
* شاعرة كردية عراقية.
عن الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *