حاوره : توفيق العابد *
يحتل الشاعر العراقي المعروف عبدالرزاق عبدالواحد مكانة مرموقة بين نظرائه العرب. ويجمع في قصائده بين الثقافة والسياسة. وهو يعتبر القصيدة موقفاً. يشكو الشاعر بعده عن بغداد؛ فمنذ عام 2003 كان يعيش في دمشق لكنه ارتحل لعمّان قبل سنتين ليرتحل معه وجع بغداد التي يعشق. وبصراحته وصدقه وشفافيته الوطنية أبدى تأييده لانتفاضة الأنبار ووصفها بأنها تحرك جماهيري يعيد الأمل بالمستقبل وقال: «استيقظ العراق من كبوته وأهلي لا يستسلمون». وقال في حديث لـ «الاتحاد الثقافي» إن قصائده تحرض وتحفز على الثورة وتتفجر مع صرخة عراقية أو دمعة طفل أو جثة ملقاة على الطريق وتصور بغداد مجرة تشحن الدنيا نوراً لكنها أصبحت الآن واحدة من الثقوب السوداء زاخراً بالدم والوجع.
يعيش الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد غربتي الروح والجسد، ويتمنى أن يمتد به العمر حتى يرى بغداد التي يعشق تستعيد أمنها ونورها ودورها الثقافي والسياسي. وقال: «كتبت لها عشرين قصيدة يحفظها العراقيون عن ظهر قلب». وحذر من تحول الإبداع لسلعة بيد السياسيين، لافتاً إلى أن القصيدة الصادقة ما زالت تعبر وبنجاح عن الأحلام في الشارع العربي لكن النقد فقد مهمته تماماً والمسؤولية تقع على عاتق العاصفة السياسية التي تعصف بالمنطقة العربية التي صار معها يصعب تحديد الأسود من الأبيض: «دخلنا جميعاً في البقعة الرمادية سياسيا وثقافيا وحتى إنسانيا». وقال: نحن بحاجة لشعراء أنبياء يقرأون قصائدهم في الشوارع ويموتون»… هنا تفاصيل الحوار:
◆ يغلب على قصائدك الحنين والتغزل بالمكان مصحوبة بالدموع وخاصة بغداد.. ماذا هناك؟
◆ ماذا تنتظر من إنسان فقد وطنه وبيته وتفرق أولاده وأحفاده في أربع قارات، وعاش في الثمانين مغترباً لا ملجأ له، فأنشد:
ليس اليتيــم يتيــم الوالديـن أجــل
إن اليتـيــم يتيـــم الـدار والوطـــن
أنظر مثل الآخرين للتلفزة وما يجري في وطني العربي كله وبالذات سورية فيخيل إليًّ أن هذا «الربيع» لن يستريح حتى يصبح صيفاً محرقاً؛ فهل ترى أن الذي حدث في العراق وفّر كرامة العراقيين أو العدالة للناس وبينهم؟ وهل وفّر لهم الأمان وأية وسيلة إنسانية للعيش. إذا كان هذا ربيعاً فكيف يكون الخريف؟!.
◆ تعيش وجع الغربة، والاغتراب ماذا فعل بك؟
◆ كمبدع كنت في بغداد أعيش غربتي الخاصة والآن أعيش غربتي الروح والجسد.. غربة الجسد تنخر في روحي حد الذبول. كتبت لبغداد عشرين قصيدة يحفظها العراقيون جميعاً ويرددونها .. كنت حيناً زاهياً وأحيانا ثائراً وأخيراً باكياً عليها، ولا أدري إذا كان العمر سيمتد حتى أرى بغداد تستعيد أمنها وسلامها فأغفو مطمئن الروح .. لا أريد أن أبارح الحياة وأنا في الوجع. قصائدي هذه تصور بغداد من أقصى كبريائها إلى أوجع انكسارها.. من زهو انتصارها إلى فجيعة دمائها.. بغداد وهي مجرة تشحن الدنيا نوراً إلى أن أصبحت واحدة من الثقوب السوداء زاخراً بالدم والوجع.
المهرجون كثر
◆ هناك من يتحدث عن «تسليع الأدب» والشعر خاصة فما هي وجهة نظرك؟
◆ في زماننا لم يعد شيء غير قابل لأن يكون سلعة تباع وتشترى ما دام الضمير أصبح سلعة فلم لا يكون الإبداع سلعة أيضاً.
فنادراً ما تجد اليوم إبداعاً ليس سلعة لأن صاحبه يهيئ نفسه لكل أنواع العذاب.. قد يصل لدفع حياته ثمناً لرفضه أن يبيع إبداعه .. هناك تجار وليسوا مبدعين فلا يمكن أن يكون الإبداع سلعة ويبقى إبداعاً بل يصبح تهريجاً والمهرجون كثر في مرحلتنا الحالية.
نحن بحاجة لشعراء أنبياء يقرؤون قصائدهم في الشوارع ويموتون والشاعر الراحل محمود درويش واحد منهم… هؤلاء كثيرون لأن الصدق كان حياً في الناس أما وقد مات فسترى ما لا يصدقه العقل.
◆ يقال بأن الناقد والروائي الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا رائد الحداثة في المشهد الثقافي العراقي .. ما رأيك؟
◆ جبرا كان عراب التجديد في الشعر العراقي ولم ينتكس مطلقاً على ثقته بأهمية تجربة التجديد، وكان صديقاً لنا نحن بدر شاكر السياب ومحمود البريكان وبولند الحيدري ورشيد ياسين وأكرم الوتري وأنا.. نجلس الساعات الطويلة بمقاهي حسن عجمي والرشيد في بغداد ونناقش قضايا الشعر. وجبرا الحديث التخرج من جامعة أكسفورد كان متحمساً لفكرة التجديد ويخطئ من يقول إن التجديد حدث بتأثير خارجي بل حدث نتيجة للتغيير بالعراق. وأعتقد أن التجديد والتحديث ليس خسارة بل إضافة، وكل إبداع محصور بمبدعه إساءة أو إحساناً وعلى النقاد أن يقولوا كلمتهم فالشعر انعكاس للحياة يتفجر معها ويلغي قيوده.
لا أخشى على الشعر
◆ كمثقف وشاعر له بصمة واضحة على الخريطة الثقافية.. ما الذي تخشاه؟
◆ لا أخشى شيئا على الشعر وإن لم أكن وصياً عليه، ويبقى تيار الإبداع مثل موج البحر وإذا كانت هناك من خشية فعلى الحياة التي تفرز الإبداع.. ليس من سكونها أو ركونها إلى الظلام والوجع الذي كان على الدوام محفزا على الإبداع. أخشى أن يتحول الإبداع لسلعة تباع وتشترى بيد السياسيين لأنه حينئذ لا يفقد صدقه فحسب بل يفقد حتى مروءته؛ فالشعر في التاريخ العربي كان يكتب للأمراء والخلفاء والملوك وأجمل قصائد أبو الطيب المتنبي كانت لسيف الدولة الحمداني ورغم تقاضيه ثمناً كان شعراً مليئا بالمروءة والصدق والإخلاص لكنه حين يتحول لسلعة يصبح مليئاً بالكذب والخيانة وخالياً من المروءة.
◆ تعيش في عمان منذ سنتين فكيف ترى المشهد الثقافي العراقي؟
◆ ربما أغوص في تفاصيله حد البكاء أحياناً وأتفجر شعراً مع صرخة امرأة أو هتاف رجل أو دمعة طفل أو جثة ملقاة على الطريق.. أعيش هذا الوجع ليل نهار ولا أرحم نفسي لأنني أنظم الشعر حتى أثناء النوم؛ فالوضع هناك يسر كل عدو ويحزن كل صديق لكنه في الأيام الأخيرة يبعث على الأمل.. استيقظ العراق وطوفانه العارم تصعد أمواجه حتى عنان السماء. وهنا أود الإشارة إلى أن كل قصائدي الأخيرة تدعو للانتفاضة بل إنني في بعض الأحيان كنت أصل حد الشتيمة لنفسي وأهلي لأنهم خانعون. «الآن لا» بدأت انتفض ثورة وفرحاً وإيماناً بهم، وقناعتي بدأت تحاسبني على كل غضبي على العراقيين لأنني كشاعر لا أملك صبراً على غضبي أو فرحي.. طالت مدة صمتهم ولهذا غضبت لأنني أعرف أهلي ومدى احتمالهم وهم لا يستسلمون.
◆ ديوانك قيد الطبع «يا عراق» ما الجديد الذي يحمله؟
◆ دائماً، وإن كنت أثير الصراخ، كنت أؤمن بأن الكلمة الوحي تتغلغل في النفس الإنسانية أكثر من الصرخة العالية؛ لهذا فإن قصائد الديوان تحفيز على الثورة ضد الظلم وأخرى وفاء وعواطف لكن سمته الغالبة هي الثورة للعراق.
◆ المرأة في شعرك لها مكانة خاصة ترى بأية صورة تظهر؟
◆ أنصح الأدباء أن يجعلوا من شريكات حياتهم رقيبات عليهم فيما يكتبون، اللهم إلا حينما بغيرهن يتغزلون لأنهن لن يكنَّ أمينات في النقد.. وفيما عدا ذلك فهن أعمق من يحس بصدق ومروءة ما يكتبه أزواجهن. لا معنى للحياة دون امرأة. وشخصياً فإن زوجتي الدكتورة سلوى عبدالله أول من يسمع قصيدتي وأدق من يوجه ملاحظة وكثيرا ما ألهمتني بما يغيب وما أكتب.
وفي قصيدة» هذه ذرى مصر» التي كنت سألقيها في حفل تكريمي بالقاهرة الذي لم يتم ضمن «العظماء السبعة» في الخامس والعشرين من «يناير» 2012 لفتت انتباهي بصوت خفيض «نسيت بغداد» فأعطتني مدخلًا للمقطع الثاني. وأقول في القصيدة:
رتــل قصيــــدك كالآيــــــات ترتيــــــلا
واجعــل حروفــك مــن ضــوء قناديــلا
وقبّـــــل الأرض كـــل الأرض تقبيـــــلا
فأنـــت تســـــتقبل الأهـــــرام والنيــلا
هــذه ذرى مصــر كــي تدنــو لهيبتهــا
أنشـــد لــو اســـطعت قرآنـــا وإنجيـــلا
كَلِماتْ
شعر: عبدالرزاق عبدالواحد
أن تلاقي الموت حُبّاً
كَلِماتْ
أن تلاقي الموت حَرباً
كَلِماتْ
أو تلاقي الموت كِذباً
كَلِماتْ
أن تُري الناس وُلوعَكْ
ودموعَكْ
وخشوعَكْ
بينَما تُسْرجُ للشيطانِ في السِّر شموعَكْ
كَلِماتْ
أن تُقاوِمْ
كَلِماتْ
أن تُساوِمْ
كَلِماتْ
كلُّ شيءٍ في الحياةْ
كَلِماتْ
كيف يَدري الناسُ يا إبليسُ أن الصِّدقَ ماتْ!
* أحدث قصيدة للشاعر
( الاتحاد الثقافي )