براين ترنر: شاعر أم جندي؟*



حيدر الكعبي *

كنت قد قرأت بعض قصائد براين ترنر قبل لقائي به عام 2009 في الملتقى السنوي لتجمع الكتاب وبرامج الكتابة في شيكاغو. كنا— دنيا ميخائيل ودان فيج وبراين وأنا— مدعوين من قبل دار نشر جامعة ميشيغان لقراءة شعرية من (أزهار اللهب: أصوات العراق غير المسموعة)، أنثولوجيا الشعر العراقي الصادرة عن الدار المذكورة عام 2008. وحين جاء دور براين قال للجمهور ما معناه أنه يأمل أن تقام أمسية مثل هذه في العراق لكي يشارك هو فيها الى جانب الشعراء العراقيين. ثم، بعد الأمسية، سألني إن كان كتابه (الوحيد حينذاك ولم أكن قد قرأته كله) قد أعجبني. وحين لاحظ تلكُّئي
في الإجابة، قال ببساطة: “إن لم يعجبْكَ، قل لم يعجبْني”.

وإذا تجاوزنا المجاملات التقليدية، فأنا في الواقع لا أَعُدُّ مثل هذا السؤال من الأسئلة التي ينبغي الإجابةُ عنها بنعم أو لا. فالإعجاب، ككل شيء، له مقدار، وإِنْ لم تكن لدينا مقاييسُ مادية نقيسه بها، كالتي نقيس بها الأطوال مثلاً. وقد لاحظتُ أن بعض من تناولوا شعر براين بالتعليق قد قارنوه، دون أن يفسروا هذه المقارنة، بشعراء لا يبدو للوهلة الأولى أن ثمة ما يجمعه معهم سوى أنهم كتبوا عن الحرب أيضاً. والمقارنات دائماً ممكنة، لكن التفاصيل الملموسة هي المهمة. فهوميروس كتب
عن الحرب، والمتنبي كتب عن الحرب، و. . . من لم يكتب عن الحرب؟

ولا بد من القول ابتداءً إنني أؤمن بأهمية هذه القصائد، وإلا لما ترجمتُها، ولكنني لا أستطيع أن أقرر بِكَمْ تدين بهذه الأهمية لمستواها الفني، وبِكَمْ للظرف السياسي الذي تمخض عنها. فمع أن التجربة وحدها لا تكفي لصنع شاعر، فمن غير المشكوك فيه أن براين الشاعر كان سيكون له شأن آخر لو لم يكن جندياً في العراق. فهل هو في حقيقته شاعر أم جندي؟ هل هو شاعر جيد أم هو جندي جيد؟ وأيهما أكثر أصالةً وأعمق جذراً في شخصية براين ترنر (وبالتالي أيهما الثابت وأيهما العابر)،
الشاعر أم الجندي؟

إن ما يدعو الى هذه المُساءلة هو حقيقة أن براين ترنر، الشاعرَ المناهض للحرب، لم يُجْبَرْ على دخول الجيش، بل تطوع فيه مختاراً، وكان قد تجاوز الثلاثين من عمره، ويحمل شهادة الماجستير. وقليلون هم من التحقوا بالجيش الأمريكي في هذه السن ويحملون هذه الشهادة. لذا كان عليه أن يتوقع السؤال نفسه يتكرر في كل مقابلة صحفية تُجرى معه: “لماذا تطوعت في الجيش؟” وكان عليه أن يجيب تارةً بـ “طن من الأسباب، بعضها كبير وبعضها صغير”، وتارةً أخرى بـ “عوامل عديدة تضافرت معاً”، وتارة ثالثة بـ “عوامل كثيرة ساهمت في هذا” الخ، رافضاً أن يعزو الأمر الى سبب وحيد، أو أساسيّ، أو حاسم. إنه يقول: “أحياناً أمزح مع الناس فأقول إننا نحتاج الى أن نجلس ونشرب بُطْل فودكا لنصل الى جذر السؤال”. لاشك أن بعض المزاح ينطوي على الكثير من الجد.
أَنَجْلِسُ ونشرب بطل فودكا لكي نصل الى جذر السؤال، أم لكي نغرق السؤال بالفودكا؟

ولو غربلْنا إجاباتِهِ العديدةَ على السؤال الملحاح، لوجدناها تتلخص في ثلاثة عوامل: عاملٍ اقتصادي، وعامل عائلي، وعامل سايكولوجي. يقول عن العامل الأول: “ربما لم أكن لأفعلَها لولا عواملُ اقتصادية كثيرة. كنت قد تزوجت منذ فترة قصيرة، و[فكرت] أنني سأعود مما وراء البحار [لأكوّن] عائلة. وكانت تلك طريقة عملية جداً لحل الكثير من المشاكل في ذلك الحين”. ويضيف في مقابلة أخرى: ” كنت حديث عهد بالزواج [. . .] والالتحاق بالجيش حلَّ فوراً معظم المشاكل المالية التي كانت تقلقني، وسدد قروضي الدراسية”. وهذا يشي بأن براين ينحدر من طبقة فقيرة، وإلا لما اضطر الى الإستدانة لكي يواصل دراسته الجامعية. فالدراسات العليا في الولايات المتحدة باهظة التكاليف الى حد يجعلها، في واقعها العملي، حكراً على الأثرياء. ويعزز هذا الإستنتاجَ قولُه عَرَضاً في مقابلة أخرى: “لقد نشأتُ وفي عظْمة كتفيَّ شريحةٌ بروليتارية”. وقد وصف وضعه الإقتصادي في بداية زواجه بقوله: “لم يكن لدينا ما يكفي من النقود حتى لشراء وسادة”. وهذا يعطينا فكرة عن مدى السخاء الذي تُعامِل به المؤسسة العسكرية الأمريكية منتسبيها— سخاء يشطب بجرة قلم واحدة كل
المشاكل المالية التي يرزحون تحتها.

ويقول براين، الذي كان والده يعمل مع الجيش الأمريكي أيام الحرب الباردة مترجماً للغة الروسية، عن العامل الثاني، العامل العائلي: “لقد نشأتُ في عائلة مرتبطة بالجيش أباً عن جد. لذا نشأت وأنا أفترض أن [الجيش] سيشكل جزءاً من حياتي. بدا كأن شيئاً، يعني، إنه ينبغي أن أرى عن أي شيء يدور [الموضوع] … أعرف أن هذا غير واضح، ولكن هذا ما أمكنني توضيحه. [يضحك]”. براين هنا يفقد الوضوح الذي تحدث به عن العامل الإقتصادي. إن تفسير التحاق الفرد بالجيش بانتسابه الى عائلة عسكرية لا يعني سوى نقل السؤال من الفرد الى العائلة، أي من الفرع الى الأصل. فما الذي دفع تلك العائلة، وقد عرفنا من أعلاه أنها عائلة فقيرة، الى الانخراط في السلك العسكري
أصلاً، ثم الى توارث هذا الانخراط جيلاً بعد آخر؟

أما عن العامل الثالث، العامل السايكولوجي، فيقول: “الأمر يتعلق بنوع معين من طقوس التحول أو الوَسْمِ بالنار، وهي من الثيمات التي ربما كانت، وأنا أكره الإعتراف بهذا، في تركيبتي السايكولوجية، وذلك أحد الأسباب التي دفعتني للإلتحاق [بالجيش]”. لكن التركيبة السايكولوجية تتصف بالثبات النسبي، وإجابة الشاعر هذه لا توضح السبب الذي عطَّل هذه التركيبة عن العمل طوال سنوات
شبابه الأولى، ثم جعلها تنشط فجأة حين بلغ عامه الواحد والثلاثين. وهل الجندية هي السبيل الوحيد لمزاولة شعائر التحول والوسم بالنار؟ فالشاعر، حسب تصريح آخر له، لم يكن يرى في الإنتساب الى الجيش سوى وسيلة لتحقيق رغبته في السياحة. أمعنى ذلك أن السياحة وطقوس التحول والوسم بالنار شيء واحد؟ “فيما يتعلق بالتحاقي بالجيش، فإن جزءاً مني فعل ذلك لأنني ببساطة كنت أفكر في الإطلاع على أماكن [جديدة] والسفر—صحيح أن هذه رؤية ساذجة جداً للحياة العسكرية، ولكنَّ هذا شكَّل جزءاً مما كنت أفكر فيه”. ولكن لماذا الجيش؟ ما الذي كان يحول دون تحقيق رغبة براين ترنر بالسياحة والسفر مستقلاً عن الجيش؟ فإذا كانت شحة النقود هي الحائل فنحن مازلنا ندور في فلك العامل الإقتصادي إذن.

والملاحظ أن براين لا يذكر أسباباً سياسية لتطوعه في الجيش، كـ “الدفاع عن الوطن” مثلاً، وهي المهمة التقليدية للجيوش. فهو يعرف مسبقاً أن هذا الجيش يعمل خارج “الوطن”، وكان أحد أسباب التحاقه به الرغبة في السياحة. ثم حين ذهبتْ وحدته الى العراق ذهب معها، فهو جندي في آخر المطاف. ذهب الى العراق رغم أنه في قرارة نفسه كان “ضد الحرب منذ البداية”، أي قبل ذهابه. “ولم يتغير شيء منذ ذلك الحين، سوى أن هذه القناعة قد تعمقت واشتدت”. فهو لم يكن مخدوعاً بالإعلام إذن. وكان عليه أن يتكتم على قناعته هذه مادام في الجيش، وأن لا يكاشف أحداً بكونه شاعراً. “لم
أقل لأحد إنني شاعر لأنني خشيت أن يشكل هذا تهديداً لوظيفتي كعريف في المشاة”.

وقد ظل يحرص طوال خدمته العسكرية على أن يبدو أمام أقرانه بمظهر الجندي الحقيقي المقاتل، لا الشاعر الرقيق المرهف، رغبةً منه في أن يبعد عن نفسه مظنة الرقة الزائدة التي تميز الشعراء، والتي قد تصمه بالميوعة، كما صرح هو في إحدى مقابلاته، ولهذا نراه في الصور مثقلاً بالتجهيزات
العسكرية، شاهراً بندقيته، مقطباً كأنه يستعد لإطلاق النار.

كان براين إذن شاعراً متنكراً في زي جندي، أو جندياً مصاباً بلوثة الشعر. والمصاب بلوثة الشعر، كما يقول سرفانتس، لا أمل في شفائه. ومن أغرب الأمور أن هذا الداء لا يؤهل الجنود المصابين به للتسريح لأسباب صحية. وقد التبس الشاعر بالجندي زمناً طويلاً في شخص براين، فجاءت تجربته في العراق لتمثل طقس التحول ولتسمه بميسم النار الى الأبد، ولتدفع بالتناقض بين الشاعر والجندي الى حدوده القصوى. جاءت لتكون الرصاصة التي تخطئ الشاعر وتصيب مقتلاً من الجندي الذي
راح يتهاوى ببطء بكامل تجهيزاته العسكرية مع تهاوي طائر الكركي على الطريق السريع رقم واحد.

“الكراكي تعشش فوق خطوط الكهرباء
في أوكارٍ هائلة كطاسات كبيرة من العيدان والغصون.
أحد العرفاء، على الخط السريع، يطلق النار فيصيب واحداً،
يَذْهَلُ الطير، لحظةً، كأنه يَعْجَبُ أن يأتيَهُ الموت هنا،
في الساعة السابعة من هذا الصباح الجميل،
قبل أن يميلَ الى الجانب، ويتهاوى ببطء
منْحلاً الى أجنحةٍ وريش.”

– مراجع ومواقع ألكترونية ذات صلة
http://davejarecki.com/creative/2009/brian-turner-interview/
http://www.stlmag.com/St-Louis-Magazine/April-2009/War-and-Peace-An-Interview-With-Poet-Brian-Turner/
http://www.valpo.edu/vpr/turnerinterview.html
http://www.vqronline.org/webexclusive/2008/08/27/hicks-conversation-brian-turner/
http://www.insidehighered.com/blogs/the_education_of_oronte_churm/what_poet_brian_turner_knows
http://www.insidehighered.com/blogs/the_education_of_oronte_churm/what_poet_brian_turner_knows#ixzz2Buy7bZYF
http://www.insidehighered.com/blogs/the_education_of_oronte_churm/what_poet_brian_turner_knows#ixzz2Buw6Zde9
http://www.insidehighered.com/blogs/the_education_of_oronte_churm/what_poet_brian_turner_knows#ixzz2BuutUO7p
http://www.desertcompanion.com/article.cfm?articleID=40

* مقدمة الترجمة العربية لديوان (هنا، أيتها الرصاصة) للجندي الأمريكي براين ترنر التي صدرت هذا الشهر (كانون الثاني 2013) عن دار تنوير في البصرة.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *