سجّادات طفولتي


طاهر بن جلون *

..((عندما كنت طفلا كنت مداوما على زيّارة عمّتي لأنّها كانت متزوّجة برجل غنيّ ، كان لديها سجّادات في غاية الجّمال، بينما في بيتنا العائلي كان لدينا الحصير كالحصير الموجود في المدرسة القرآنيّة، لم تكن مريحة و كانت تسبّب لي ألما في الرّكبتين، فيما بعد علمت أنّ سجّادات عمّتي كانت من نوع ” الرّباطي / Rabati”الأصيل، كانت سجّادات جميلة و ذات جودة عاليّة مصنوعة يدويّا في الرّباط ، اليوم، هذا النّوع من السّجاد مطلوب بكثرة و أسعاره مرتفعة جدّا لسبب بسيط الاّ وهو أن الكثير يعتبرها تحفا فنيّة، شاهدة على حقبة زمنيّة و حضارة ، الرّباطي أو (Un Rabati ) هو أكثر من سجّادة، هو كتاب، حكاية، دعوة للسّفر، سماء السّجادة أحمر عميق، الأزهار سوداء، تحكي قصص و حكايات، السّبب الذّي جعلها تكون على الجّانب، على الضّفاف ، هي لأنّها تشكّل الاطار، ربّما لأنّ الحكايات لا يجدر بها ان تتخطّى الحدود، هي(الأزهار)هناك لتقرأ، لتفكّ، لمزجها بالأحلام والتّأمّل، وهذا ما كنت أقوم به، تعلمت أوّلا النّظر للسّجادة كما نتعلّم القراءة في كتاب، أو قراءة تعابير سريّة على وجه ما، شرح لي والدي في أحد الأيّام بأنّ السّجادة هي أكثر من غطاء أرض متربة، بل هي ابداع يعبّر عن جوانب من ثقافة وحضارة شعب و ليست عرضا للزّينة، هو كذلك لكن ليس الى ذلك الحدّ، اعتبره حضور للزّمن، ربّما هو صلة مع ذكرى الأجداد، نوع من الكتب التّي تركوها لنا، شهادة عن حياتهم، حياتهم الدّاخليّة، خصوصياتهم، في الحقيقة وبشكل من الأشكال هو تعبير ملموس و محسوس عن روحانيتهم، أن تنظر يعني أنك تدخل ببطء الى فضاء غير مسكون، عليك أن لا تستعجل الحركات، أن تأخذ مسافة، مراقبة كلّ شيء، ثمّ الانتقال الى التّفاصيل، ببطء، دون عجلة، دون القفز على الحواجز، أن تركّز نظرك وانتباهك على صورة ما، الدّوران حول رسم أو زخارف الأرابيسك، أن تشعر بالرّاحة، الألفة مع الموضوع، من أجل هذا يجب أخذ الوقت اللاّزم مع صفاء الذّهن، بالنّسبة لي جميع الحجج مقبولة ومشروعة لزيارة عمّتي في بيتها الكبير الواقع في حي (Batha ) بمدينة فاس ، تمت تغطيّة الأرضيّة برخام ايطالي، يزيّن الجّدران الزّليج الفاسي الذّي يصل الى طول انسان، كان للأسقف الخشبيّة روافد منحوتة،منقوشة، مطليّة بألوان تذكّر بألوان سجّادة”الرّباطي”، كنت أنزع حذائي و أدخل الى القاعات الفسيحة المفروشة بسّجادات” الرّباطي”، أنام فوقها مداعبا كثافة صوفها، كنت اشعر بصنعة اليدّ، ابداعها، بل، آلاف الأيدي، أشعر بوزنها و أبعادها الهائلة، كان عمّي يوصي بصناعتها اعتمادا على نسخ أصليّة من القرن 19، كان عملا يدويّا على المقاس، ما كان يقوم به ترفا لا يقدر عليه الا القلّة القليلة من النّاس، كنت آخذ مكانا على مفرش عال بما فيه كفاية وأركّز نظري على السّطور المشكّلة للوحة، بالنسبة لي كان هذا الرّسم شبيها للسّجادة التّي تعطي الدّفء لغرفة المعيشة وتزيد من أناقتها وهيبتها، كان يوجد أيضا سجّادات أكثر تواضعا، خفيفة الوزن، أقلّ جودتها عن سابقتها، هي سجّادات بربريّة مصنوعة باليدّ لكن بقليل من الصّوف و بألوان كثيفة في بعض الأحيان، كانوا يضعونها في غرفة الأولاد أو في غرف الخدم، كنت أجدها جميلة، ما كان يشدّني نحوها محتوى رسوماتها، للوهلة الأولى يكتشف المرء ان مصدرها القرى البعيدة والفقيرة، تشعر بأنّها صنعت بدون تكلّف أو ادّعاء و أكثر من هذا صنعت بنوع من اللامبالاة ، حتى هذه كان يصعب على والديّ اقتنائها، لذا كنت أظن أنّ أمّي تفضّل بأن لا يكون لديها أيّ سجادة في البيت على سجّادات بائسة )) ..
.. (( كانت طفولتي محرومة من الموسيقى لسبب بسيط و هو انه لم يكن لدينا راديو الى أن بلغت عشرة سنوات، و لا حتى غراموفون للاستماع الى الاسطوانات، فيما بعد شعرت بالهوّة السّحيقة التّي خلفها هذا الحرمان، لم يكن شعورا بسيطا بقدر ما كان احساس بالكبت والاحباط الذّي كان بداخلي، و عندما بدأت بالاهتمام والاستماع للموسيقى كانت خطواتي الأولى تقودني الى موسيقى الجاز ، فيما بعد تعلمت وبطريقة فرديّة الموسيقى الكلاسيكيّة دون مساعدة أحد، لقد ذكرت هذا لأنّ الصّحبة والرّفقة، أقصد قول تعلقي الكبير العميق بالسّجادات وانجذابي لها عوّضا بداخلي غياب الموسيقى، كانت الألوان وترتيبها يبهجني، يحلّق بي في الأعالي لابتكار قصص الحبّ، الكراهيّة، الثّأر، هناك، أقصد في سمائي التّي أبدعتها من عجينة خيالاتي تصبح( بالنّسبة لي)بعض أشكال الغيوم المعزولة الشّخصيات ذاتها التّي لعبت معها في قعر الأزرق، في السّجادة القعر الذّي أتحدّث عنه أحمر و الشّخصيات هي طيور و عصافير، أزهار، أشجار، نجوم وملائكة، يحدث لي أن تختلط عليّ الرّؤيتين فأضيع في عالم غير عقلاني مفرط في الغرابة، في الماضي، كنت طفلا هزيلا لا يحبّذ ألعاب رفاقه العنيفة، مفضّلا ابتكار ألعابي الخاصة بي وه ذا بفضل سجّادات عمّتي، كان خيالي ينمو فيضحي مع مرور الأيّام شريكي الوحيد الأوحد، لم أكن أشعر البتة بالضّجر أو الملل، وأيضا لم أكن لأشعر بالوحدة لأنّ السّجادات كانت هنا، مع زركشة الأزهار، فأزهار مثل الخزامى، الزّنابق ، الورود البريّة و القرنفل، اسقاط الأزهار الذّي تثيره الرّيح، كنت أرسم حديقتي وأتجوّل فيها وفي نفس الوقت أتخيّل شخصياتي متحدّثا معها مثل الرّسوم في المنمنمات الفارسيّة، فيما بعد، اقصد بفترة ليست بالبعيدة اكتشفت عجائب السّجادات الشّرق الأوسطيّة وخاصة منها الفارسيّة، و القادمة من الصّين، الجّمهوريات الإسلاميّة الواقعة في روسيا، مثل تاباريستان، خراسان، وتركيا ومناطق أخرى من العالم الاسلامي، بشكل من الأشكال نحن في عالم آخر، متخيّل لكنّه مختلف عن المتخيّل النّمطي ، عالم أكثر تعقيدا و زيادة على هذا عالم خفيّ، السّجادات هي حدائق صغيرة، تداعيات عالم حيث الرّائع و الاستثنائي يتقمّص شكل الخرافة، تحكي لنا قصص و حكايات، فقط، نحتاج للمفاتيح ، للشيفرات لولوجها ،للسّفر في دواخلها الغامضة، يحتاج هذا منا قليل من الثّقافة، لكن هذا لا يمنع اعجابنا من دون فهم كلّ ما تمثّله وتعنيه، لا اتذكّر ان كان لدى عمّتي سجّادات شرقيّة، لكن ما كنت اعلمه انها جلبت معها من الحجّ سجّادة فارسيّة باعها لها حاج ايراني و الذّي كان أيضا تاجرا، لم تكن سجّادة أصليّة، كانت فارسيّة ، أيّ نعم ، لكنها لم تكن ذات جودة رفيعة التّي تشتهر بها السّجادات الفارسيّة ذات السّمعة العالميّة، عموما، لاحظت فورا انها لم تكن مصنوعة باليدّ، في سياق آخر كان زوج أختي الكبرى تقيّا، لم يسبق له ان تخلف عن صلاة واحدة ويذهب لمكّة المكرّمة كلّ سنتين، وفي أحد الأيّام احظر لي هديّة، زربيّة صغيرة للصلاة بقياس متر واحد و 60 ،كنّا نسمّيها بسجّادة، هذه الكلمة مشتقة من “سجد” وشرح هذه الكلمة هو الرّكوع لأداء الصّلاة، قال لي، بهذه السّجادة سيقبل الله صلواتك، شرحت له بأنني أصلّي ذهنيّا وبأنّني لست ملتزما دينيّا، لكنّه أصرّ بأن آخذها و استعملها، عند فحصها اكتشفت انها مصنوعة من ألياف تركيبيّة في الصّين، قلت لزوج اختي: هل تدري؟، اقامة الصّلاة على سجادة من البلاستيك ومصنوعة من قبل شيوعيين صينيين، ربّما هم ملحدين!، انتهى النّقاش هنا، طويتها و وضعتها في الخزانة حيث العثّ يتناول الطّعام، للأسف، هذا هو أيضا مصير السّجادات الجّميلة، سجّادات من الصّوف والحرير ، حيث تدسّ الحيوانات الصّغيرة نفسها وتحدث فيها الثّقوب، بدون مواربة كنت أكره رائحة النّفتالين الذّي يذكّرني بذكريات سيّئة ))..
..(( في حكايات ألف ليلة وليلة السّجادة هي قطعة رئيسيّة من عمليّة السّرد والحكي، شهرزاد، المرأة الشّابة الجّميلة التّي تحكي قصصا للأمير لكي لا يقتلها، نجدها تجلس على سجّادة فاخرة، وعندما يريد الجّنّ والعفاريت عبور القارات في لمح البصر للتدخّل في احداث قصّة ما تقوم شهرزاد ” بتسفيرهم” على سجّادات سحريّة” البساط السّحري”، لقد تحوّل الأمر الى كليشيهات محفوظة عن ظهر قلب، لكن ما نعرفه هو ان السّحر لا يتوافق مع المنطق والعقل، في تلك الأزمنة المتخيّلة كانت السّجادة عنصرا أساسيّا في الهويّة والثّقافة، و كان الشّرق ملفوفا في زخارف سجّاداته، في الارابيسك خاصته، هي استعارة وكناية حتى ان الله يستعملها(الكناية والاستعارة) للتوجّه لعباده في القرآن الكريم “الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً “،و هنا يمكن استنتاج، بأنّ الله يثبت وجود رابط بين نشأة الكون وفنّ السّجادة أو الزّرابي، حيث الألوان تشارك في رموز الإسلام، الأخضر رمز الموعودين للجّنّة وهو اللّون الرّئيس في الإسلام، الأبيض والأحمر هما لونان ايجابيان، يجسّدان الخير، الوفرة والفرح، نقاء القلب( نقول لشخص ما بانه طيّب، لديه قلب أبيض)،وهذا ما يشير اليه المستشرق الكبير(Louis Massignon ) ،” العاطفة الجّماليّة النّاتجة عن السّجاد الإسلامي تكمن في تجاور الأضّواء والظّلام، المضيء والمظلم”، فمعظم السّجاد، حتّى الذّي ليس مخصّصا للصّلاة، تشير الى مكانة أو قوس والتّي تشير الى القبلة، وهنا توجد اجابة واضحة لما جاء في سورة – النّور – اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “( الآية 35 / سورة النّور ) .. والسّجادة تحيل كذلك للعتبة، البوّابة التّي تنفتح على مسار الرّوحانيّة، الايمان ونبذ كلّ ما يثقل العقل والقلب ، و في أحد الأيّام عندما رآني صديق أهتم كثيرا بأمّي قال لي هذه الجّملة “هل تعرف؟،قال رسول الله محمد أنّ الجّنّة تحت أقدام الأمّهات، بفضل هذه السّجادة الرّائعة التّي أهديتها لها،” الرّباطي”، من المؤكّد انك ستذهب للجّنّة!”، لذا يمكنني ان أقول تكفي سجّادة جميلة للدّخول الى الجّنّة))

 * أديب من المغرب يكتب بالفرنسية  
* كتب هذا النص للملحق الثقافي لجريدة (La Repubblica ) / .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *