شوقي .. رائد الشعر القومي وصرخات الحرية



القاهرة ـ من وكالة الصحافة العربية

هل هناك شاعر الآن استطاع أن يفجر قصائد الحرية والتعاطف مع الشعب السوري الآن كما فعل أمير الشعراء في قصيدته عن دمشق؟
الشاعر المبدع هو ضمير أمته. يحترق بنار الغضب والرفض والعصيان ليزرع وردة في حدائق الحياة.. الشاعر الملتزم يقاوم كل سلبيات الحياة ويتمرد على الظلم ويغني للحرية والإنسان والشموس والأوطان. ولا يمكن أن نغفل قصيدته “نكبة دمشق” التي كتبها حين قامت فرنسا بإطلاق النيران على ثوار سوريا وضربها بالقنابل، وفي حفل كبير أُعد خصيصًا من أجل مساعدة منكوبي سوريا عام 1926 ألقى الشاعر أحمد شوقي هذه القصيدة التي يقول فيها:
سـلامٌ مــن صَبـا (بَرَدَى) أَرقُّ ** ودمعٌ لا يُكَفْكَـفُ يــا دِمَشـقُ
ومعـــذِرة اليَرَاعـــةِ والقــوافي ** جـلالُ الـرُّزْءِ عـن وَصْـفٍ يَـدِقُّ
وذكـرى عــن خواطرِهـا لقلبـي ** إِليــكِ تلفُّـــتٌ أَبــدًا وخَــفْقُ
وبــي ممــا رَمَتْــكِ بـهِ الليـالي ** جراحــاتٌ لهـا فـي القلـب عُمْـقُ
فهل هناك شاعر في أمتنا العربية الآن استطاع أن يفجر قصائد الحرية والتعاطف مع الشعب السوري الآن كما فعل أحمد شوقي في قصيدته عن دمشق؟ ولذلك كان ضروريًا أن نستمد بعض الزهور من حدائق حياة الشاعر الكبير رائد القصيدة العربية أحمد شوقي.
• بدايات شاعر
ولد أمير الشعراء أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في 16 أكتوبر/تشرين الأول 1870 لأب شركسي وأم من أصول يونانية، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر. ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتَّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا، فبدأ الشعر يجري على لسانه.
وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة 1885، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ “محمد البسيوني”، ورأى فيه مشروع شاعر كبير، فشجعه، وكان الشيخ بسيوني يدرس البلاغة في مدرسة الحقوق ويُنظِّم الشعر في مدح الخديوي توفيق في المناسبات، وبلغ من إعجابه بموهبة تلميذه أنه كان يعرض عليه قصائده قبل أن ينشرها في جريدة الوقائع المصرية، وأنه أثنى عليه في حضرة الخديوي، وأفهمه أنه جدير بالرعاية، وهو ما جعل الخديوي يدعوه لمقابلته.
وبعدها تخرج شوقي في المدرسة سنة 1887، وهو نفس العام الذي أهدى فيه مصطفي كامل مسرحيته “فتح الأندلس” لعلي شوقي والد الشاعر، وأرسل الخديوي توفيق بن إسماعيل، أحمد شوقي على نفقته إلى “فرنسا”، طالبًا الحفاوة بالشاعر الشاب، فلما وصل شوقي إلى “مرسيليا”، وجد المدير في استقباله، مبلغًا الشاعر أنه سيقضي عامين في مونبيليه وعامين في باريس. فالتحق شوقي بمدرسة الحقوق في مونبلييه، وبعد مرور سنة رفض الخديوي توفيق أن يعود شوقي إلى مصر لقضاء العطلة الصيفية، ومن الثقافة والأدب نهل شوقي من أدب “هيجو، وراسين، ولامرتين”، وبعيد انتهاء السنة الثانية، صحبه مدير البعثة المصرية في فرنسا في رحلة إلى إنجلترا حيث قضيا زهاء الشهر.
• شاعر العرب
كما لقب شوقي بشاعر مصر، وشاعر العرب والمسلمين، وكان فيه الازدواج بين حب الحياة ومتاعها، والإيمان ونعيمه، له ذاتيته التي لا تخفى، فهو شاعر الحكمة العامة وهو شاعر اللغة العربية السليمة، وكان له بالغ الأثر في النهضة الأدبية ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين. كما أن أعماله الأدبية تنوعت ما بين الشعر والمسرحيات وتطرق فيها للعديد من المواضيع الوطنية الملحة كما كتب في الشعر الوجداني. وكان رائد الحركة الأدبية المصرية الحديثة، واشتهر بقصائد الشعر الملحمي. وكان رجلًا بعيد الغور، واسع الطموح، متسع الآفاق، عظيم الحيلة، وافر الثقافة جميل الديباجة، حسن التصرف رائق الخيال، ملأ الدنيا وشغل الناس في حياته وبعد مماته.
وقد أصيب شوقي في سنته الثالثة في “باريس” بمرض شديد كان فيه بين الحياة والموت، فلما تماثل للشفاء، أشار عليه الأطباء أن يقضي بضعة أيام تحت سماء إفريقية، فاختار الجزائر ومكث فيها أربعين يومًا، ثم قفل منها راجعًا إلى باريس، مستأنفًا الدرس، وقد استطاع أن يحصل على إجازته النهائية في آخر السنة الثالثة، ثم ظل هناك ستة أشهر يختلف فيها إلى مسارح باريس ثم رجع إلى وطنه.
• اختيار المنفى
عاد شوقي إلى مصر فوجد الخديوي عباس حلمي يجلس على عرش مصر، فعينه بقسم الترجمة في القصر، ثم ما لبث أن توثَّقت علاقته بالخديوي الذي رأى في شعره عونًا له في صراعه مع الإنجليز، فقرَّبه إليه بعد أن ارتفعت منزلته عنده، وخصَّه الشاعر العظيم بمدائحه في غدوه ورواحه، وظل شوقي يعمل في القصر حتى خلع الإنجليز عباس الثاني عن عرش مصر، وأعلنوا الحماية عليها سنة “1941”، وولوا حسين كامل سلطنة مصر، وطلبوا من الشاعر مغادرة البلاد، فاختار النفي إلى برشلونة في إسبانيا، وأقام مع أسرته في دار جميلة تطل على البحر المتوسط.
وفي الفترة التي قضاها شوقي في إسبانيا تعلم لغتها، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ، خاصة تاريخ الأندلس، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية، وزار آثار المسلمين وحضارتهم في إشبيلية وقرطبة وغرناطة. وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته “دول العرب وعظماء الإسلام”، وهي تضم 1400 بيت موزعة على “24” قصيدة، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي، وقد نُشرت بعد وفاته.
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه وأنفاسه. ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه، وظفر الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في التصوير، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان “الرحلة إلى الأندلس”، وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى، ومطلعها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي ** وترفعت عن جدا كل جبس
• الحنين للوطن
وقد بلغت قصيدة شوقي “110” أبيات تحدث فيها عن مصر ومعالمها، وبثَّ حنينه وشوقه إلى رؤيتها، كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال دول المسلمين بها، وعاد إلى وطنه مصر وبلغ شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر، فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وكان قد بدأ في ذلك أثناء إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد.
وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: “مصرع كليوباترا” و”قمبيز”، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورًا، وواحدة من التاريخ الإسلامي هي “مجنون ليلى”، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي “عنترة”، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي “علي بك الكبير”، وله مسرحيتان هزليتان، هما: “الست هدى”، و”البخيلة”.
• الشوقيات المجهولة
وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل، ووصف وحكمة، وله في ذلك أوابد رائعة ترفعه إلى قمة الشعر العربي، وله آثار نثرية كتبها في مطلع حياته الأدبية، مثل: “عذراء الهند”، ورواية “لادياس”، و”ورقة الآس”، و”أسواق الذهب”، وقد حاكى فيه كتاب “أطواق الذهب” للزمخشري، وما يشيع فيه من وعظ في عبارات مسجوعة. وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه “الشوقيات”، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه “الشوقيات المجهولة”.
• وفاته
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر، وفاضت روحه الكريمة في 13 ديسمبر 1932، ولكن ما زلنا حتى اليوم ندرس أحمد شوقي، ونقرأ قصائده وملاحمه الإسلامية وصرخاته؛ من أجل الحرية والحب والإنسان، فهل يظل تراثنا الشعري بعيدًا عن وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية؟

* ميدل ايست اونلاين.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *