فواز السيحاني
تُعد أحلام مستغانمي من الأصوات النسائية التي حضرت مذ بداية التسعينيات في المشهد الروائي العربي، وكانت الانطلاقة تتجسد في العمل الشهير “ذاكرة الجسد” مروراً ب”فوضى الحواس” انتهاءً ب”عابر سرير” ومنذ ما يقارب الشهر صدر عملها المعنون “الأسود يليق بك” متضمنا في شكله الروائي حالة تماثُل، أو بالأصح حالة تَشابه مع الأعمال السابقة، وتحديداً أكثر الانطلاقة الأولى لها “ذاكرة الجسد” من حيث قيامه على نفس الموضوع الذي تم التطرق له في الأعمال السابقة.
تمتاز أحلام مستغانمي في رأي بعض النقاد، بأنها سلبت اللغة من الرجل الذي كان يعتقد تاريخاً بأنه قطعاً الكائن الذي يستطيع أن يعيد تشكيل الأشياء من جديد حرفاً وجملاً ولغة، إلا أن أحلام أسقطت هذا المفهوم الثقافي والتاريخي الذي كان يسكن في ذاكرة المبدع العربي وعقله الجمعي، وأصبح من بديهيات وجوده الإبداعي, وتكمن حالة التماثل في عمل أحلام الجديد والأعمال السابقة من حيث أن الرجل هو الركيزة الأساسية لدائرة العمل، ذلك البطل الذي جمع المال من العدم، وأصبح ذا مكانة اجتماعية تجبره في الغالب على ارتداء حالة من الغموض تصيب الإطار الإنساني الذي حوله من العجز في الدخول إلى مشاعره ومعرفة ما وراء مادته الخارجية، أي أن البطل كان خالد بن طوبال لكن بمسمى آخر رغم التطابق في المضمون اللغوي والسردي الذي تم عرضه والذي تناول قضايا الرجل وكبرياءه واضطراب علاقته مع الأنثى ولجوءه دوماً إلى الصمت من حيث إنه الأكثر انسجاماً للتعامل مع النقيض”الأنثى” بل هي حالة من الانفصال عن الإطار الوجداني والفكري للرجل.
استخدمت أحلام في علمها الجديد التساؤل الفلسفي كمحطة مهمة للقيام بفعل الرواية، وهذا ما أكدت عليه أثناء حفل توقيعها للكتاب مما يجعلنا نتذكر ما قاله الناقد بورخيس في كتابه “صنعه الشعر” من حيث إن العمل الإبداعي سواء كان ملتصقاً بالجنس الروائي أو بالجنس الشعري يحتاج إلى جرعات فلسفية تحول القارئ من متلقٍ عادي إلى قارئ متسائل يغرق في دوامة الأسئلة، إلا أن هذه الدوامة التي صنعتها أحلام هي دوامة متكررة وضيقة في أعمالها، بينما العالم الفلسفي هو رؤية أكثر اتساعاً وشمولية من هذا التضييق المختزل في الرجل والأنثى واضطراب العلاقة بينهما، بل إن تساؤل الفلسفة في الأعمال الإبداعية أصبح متجاوزاً لهذه الدائرة ومؤسساً لدوائر وموضوعات أخرى، كالهوية ومركز الإنسان من الكون والقلق الوجودي وحق العدالة.. كما نرى في الكثير من الأعمال الروائية العربية ك”باب الشمس” لإلياس خوري و”دروز بلغراد” لربيع جابر و” بداية ونهاية” لنجيب محفوظ.
القارئ للعمل يلحظ بأن البطلة كانت تنتمي عِرقياً إلى منطقة تعرف باسم جبال الأوراس، وهي منطقة جبلية مرتفعة القمم تقع جغرافياً في شمال شرق الجزائر، ويمتاز أصحاب تلك المنطقة باستخدامهم لسلطة الأعراف والتقاليد وتقديسهم لمعاني الشرف مما جعل البطلة تقف في المنتصف بين عاطفتها وشعورها بالحب المحشو بالأمنيات الجميلة وبين قسوة العادات والتقاليد والقيم القبلية التي ورثتها إجباراً وقسراً عن أجدادها الأولين، حتى أصبح معنى الحب لدى البطلة يشابه الرؤية النيتشويه الذي عَرضها الفيلسوف نيتشه في كتابه “ولادة المأساة” من حيث إن المعنى الحقيقي للحياة والحب أشد شناعة مما كنا نتوقع، ولهذا فإن الإنسان يحتاج الأوهام بوصفهما خلاصاً من ذلك المعنى المأساوي مما جعل البطلة تنظر ختاماً إلى الحب بوصفه سؤالا زائفا لم يتمكن البطل من إعطائه إجابة تستحق، إلا أن هذا الطرح الإبداعي كمراقب لأعمال أحلام تمت معالجته بنفس الخط اللغوي في الأعمال السابقة مما جعل العمل الجديد مجرد إعادة تكرار وهذا المأزق نتج عن محاولة أحلام مستغانمي في أعمالها.
إن تنقل المرأة من الهامش إلى المركز وهو ما كانت تحاول فعله الحركة النسوية في مجال الأدب من أن تعززه في الثقافة الحالية كحالة من التعبير عن الفعل الثقافي الذكوري اتجاه الأنثى بوصفها إنساناً قبل أن تكون جنساً، ولعل من أبرز الكاتبات اللاتي ساهمن في تأسيس هذه الرؤية غربياً فرجينا وولف في أعمالها الإبداعية، التي كانت تحاول فيها جاهدة كشف تناقضات القيم والمفاهيم للثقافة من خلال الكتابة في الجنس الروائي، وكأنها تسعى إلى إنشاء محاكمة أدبية لتقديم هوية بيولوجية نسوية تنقلها من هامش الثقافة إلى مركزها، كما أن لهذه الرؤية التي قدمتها أحلام سياقات ومعطيات نسوية عربية قدمت نفس هذه الرؤية أدباً فنجد مثلاً الجملة الشهيرة التي قالتها غادة السمان في كتابها”القبيلة تستجوب القتيلة:”عندما يولد العمل الأدبي علينا أن لا نسأل هل كان الكاتب ذكراً أم أنثى بقدر ما علينا أن نسأل هل العمل جيد أم سيئ”.
تعرضت أحلام في هذه الرواية إلى مأزق من ناحية بذلها لصناعة أشخاص ثانويين إلا أن هذه الشخصيات الثانوية لم تُعط مكانتها وأدوارها الفعالة مما جعلها-أي تلك الشخوص-يتم استعادتها من قبل الكاتبة من أجل وجود فراغات سردية أو من خلال الإمداد اللغوي يمكن حشوها بتلك الشخوص غير الرئيسة أو بالجمل الشاعرية والتي جعلت القارئ لو حذف الكثير من الصفحات يجد بأن الحبكة لم تتأثر، وهذا مأزق في الشخوص، وتبريرات لغوية تعطي دلالة مهمة وهي أن الرواية ليست فقط شخوصاً ولغة، وأن تطبيق تلك القواعد غير ملازم لصفة الأدبية.
( الرياض )