نور الدين العلوي *
استلف من الشمس ساعاتها الاربع نحو شرق جميل في التخيل والكتب. بعد أيام سأعيد للشمس ساعاتها الست و انزل تحت زيتونة في الشمال. هناك أبدا الحفر كالقندس المتواضع لأنهي عقودي مع الهواء الملوث بترهات العروبة و الاكاذيب الفاحشة والأمل . بانت نهايات الطريق للمسافر الاعزل.
يحملني الطائر المعدني الغربي المخفف بالصناعة في طيران الامارات الى شرق الدجل والحماقة… مليئة رأسي بالصور التلفزية عن العرب الاغبياء…خمسون عاما من الايدولوجيا عن عرب النفط والعاهرات..سأرى بعيني التي لم أنظف من شعارات العروبة الكاذبة عن نفط العرب للعروبة والفقراء…سأنزل الى عمق صحرائهم وأقيس .
الخمر على طيران الامارات متاحة فاشرب ما حملت باطيتك. كيف تحمل العالم وتمنع عليه الشراب لقد جاءت الفتوى رحيمة بخدمة الطيران …
نظرت من النافذة الى سحب بيضاء فوق بحر ازرق للعرب بحر من الماء والرمل والأكاذيب الكبيرة منذ قفا نبكي الى مداح القمر. ما أطهر العالم فوق السحاب …بياض في بياض في بياض…علو في علو في سماء. كتل بيضاء من الصدق الرباني لم تشبها شائبة تحت السحاب نجد العرب والمخابرات الذكية والصهاينة والكلاب.
يدخل السحاب في منطقة التنازع عندما يقترب من الارض المنزوعة البكارة والطهارة. يسوقه الطقس أو يسوقه الله فوق أرض يقسمها البشر بينهم كقطعة قماش مبلولة. فيضيع طهر الماء و السماء وتبقى الفتاوى تحلل الفودكا في الجو وتحرمها على الارض التي قيل طهرها الأنبياء .
عندما يدخل السحاب في منطقة التنازع الارضي انسحب نحو المثال الرباني الذي يكبر قدرة الانسان على التخلي عن بشرية عادية ويسمو . هو الرب يعرف طرق السحاب ويحكم الغيث والمطر والضباب ويتكرم على الشاعر بطلل مرت عليه سحابة… فيكتب قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل …قفا نبك ايها الغيم الجليل فوق بحار العرب التي تحميها الاساطيل وتسمح للنفط بالتدفق وصناعة المدن العالية … تصطنع الانتماء الى …عاج الشقي الى رسم يسائله…
طرت الى الشرق الذي لا يحسب الزمن على رفف السحاب. الشرق الذي بنيت له صورا من كتب الخبر المركب في اذاعة الشرق الاوسط من القاهرة حيث يكون نفط العروبة للعرب. و تركت قومي خلفي يصطرعون على أي رأسي الابرة يصلح للخياط .
ترتج الطائرة فوق سحاب مضطرب … ايتها الطائرة تربصي باللوحة… إن يدي تضطرب قبل اكتمال الفقرة … ترتعش الطائرة فاسمع الشهادة من كل فم …كأن ليس لله إلا مهمة انقاذ الارواح من خوف النهاية. لست اخاف من النهاية…أخذ الجسد كفايته من شهوات الفقراء… بي على نور وشادي خوف أم مرضعة…اشغل نفسي عنه بالرواية…
قريبا يحط الطائر المعدني …
أحط وأنظر في تفاصيل المدن العربية اللامعة من بلور ومن حديد…مدن بلا اخطاء مسطرة كأنها في كراسات مهندس يتعلم. حدائق مقلمة كأصابع العروس و ورد مزهو بلا رائحة وسدر وطلح نضيد…
نزلت … انا البشري أعرف أن الغمام جميل في القصيدة ، واكتفي من لونه بالأمل كلما ادلهم عرفت أن الزيتون في الشمال سيسقى….
تركت خلفي نور تمتشق اقلامها لتتحرر من نفط العروبة المنقبة و الهزائم… و يقول شادي أبي أريد ساعة راقية لحساب الزمن…وتركت خلفي روايات دمرها بين يديًّ بنو وطني من الناشرين …آخرها في النزيف … تفاحة من سبيبة سبتني ثم ذاب النص في تلافيف التذكر بوهم نص أخرق لا يكتمل. بين السبي والسبيبة سبب وطيد. فقرة واحدة تكفي للوصية … سأوصي لكن اذا استقر بي المقام قبل الوصول الى الزيتونة في الشمال.
نزلت.
عرب النفط يحسبون الزمن بساعات دقيقة ويضعون الدرهم في موضع الدينار..ويستغنون عن عرب الكلام ومدافع القول العتيد…لهم بلد نظيف و عمالة هندية …ولا يحبون النقابات اللغوية. النفط خفف ثقل الساعات على أرواحهم … ثم ناموا على نفط كثير و سؤدد …
توجد ساعات كثيرة في بلاد النفط كنت أظنها تحسب الزمن بثقل التاريخ القديم والقصائد الجاهلية ولا تتقدم لكني وجدت زمنا غير الزمن و عربا يستعيضون عن الشعر الخيام القديمة بنثر عمارات حديثة تدغدغ باطن السحاب فلا يضحك.
ليس الامر كما تخيلت.السِّحن غير السٍّحن والنفط له رائحة الفلوس والفخامة المذهبة…بأي حق يقسم هؤلاء رزقهم على عرب الكلام في غرب العروبة و الكذب ؟ طفت بالمكان ورأيت من خول لنفسه حق بناء مجده بجهده مستفيدا من ذكاء العالم. وما لا يأتي به السيف تأتي به الرزمة الخضراء. في شوارع الثروة المتحدية تجد عربيا من ليبيا يبكي على ثروة بلده التي ضاعت وتجد جزائريا يبحث عن عمل نادل وتجد تونسيا يشتهي ان يشتري سيجارة من علبة لان ليس لديه ثمن العلبة كلها. وتجد هنديا يسوق سيارة شاخصا في الطريق.
عرب النفط سبقوا عرب الشقشقة اللفظية…بنوا لأنفسهم منعة من الفقر …ولا باس بعمالة آسيوية رثة ..من كان منكم يكره السلطة فليرمهم بحجر …رأيت الفرق بين توظيف الطاقة و الذكاء والحيلة … وبين عقود العسكر العربي الذي سرق السلطة من شعوب كانت ذكية فحقرت حتى صارت حميرا تغنم التبن اذا هبت به الريح… بأي حق يقسم هؤلاء ثروتهم مع عرب الاكاذيب باسم العروبة … اختصر..مشمئزا من الكذبة وجنودهم ..خطاب العروبة الكاذبة ضيع العرب قاطبة ولم يضيع علينا فلسطين..فما فلسطين إلا جزء من خسارتنا.
تغيرت العرب في بلاد الشعر والرثاء…لا قياس على الصور القديمة…لو عاد امرؤ القيس بن حجر …لما استنجد بغير أهله … ولصار مهر عبلة ناطحة سحاب…
بلدان لا تزعم الثورة والشقشقة لكنها تصنع بالثروة ثورة في…الارضين وفي السماء…ولا تكذب على شعبها في الاذاعة…
وعدت ذات ضحى باهر من بلد الغاز والحسابات الدقيقة والنجاح.
تحيد الماكينة الطائرة عن سماء فلسطين لكي لا تزعج رادار الملك داوود. لن نمر فوق الشام فصواريخ الاسد تزمجر على شعبه الاعزل..والطائرة تخاف من الصورايخ. لن نمر فوق العراق. لن نطل على سر من رأى .. والفيحاء لن تضخ عطرها على مقدم الطائرة نكتفي بالكنانة … هناك ولد العالم، لكنه غاص في وحل الشعارات التي تقسم الموجود ولا تزيد عليه فتجعل التنمية رديفا لاقتسام الفقر و حسد العربان على نفطهم.
فوق بادية الحجاز قريبا من تدمر ننادي منير بشير في مقام الحجاز. يخفق العود في قلب الالة الطائرة فيلفت انتباه عراقي يوجعه الحنين يفيق من تناومه ويصغي. يقول لك بفاجعة في قلبه لقد سمعته في مسارح بغداد لكني لا استطيع دخول العراق. العود عربي والعراق عربي وعلي عربي والماء في دجلة عربي كنهج البلاغة أو ديوان بشار. فوق الجزيرة اشم من اعطاف العراق بخور الانبياء. يخفق القلب الحزين للعراق البعيد عن الكنانة. تحتي الصحراء وفي قلبي العراق. و تحيطني بعض سماء من كنانة..هي سيناء وجبالها ومفاوزها. هنا قطعت اكمام الجلباب التركي…قبل ان يلبس عرب الخيل طاقية الطراطير.
أطير فوق العراق ولا أحط ..لا عرب دون العراق. سلام عليك يا عراق بلا عرب صغروك فلا تنتظرهم وعض على جرحك من جراثيم الجوار وعد من بعيد …
لا عرب دون فلسطين ولو احكموا ملك كسرى …
فوق سماء المتوسط والسحب تسمح برؤية البحر… أقول للشمس الصريحة ايتها الشمس اعيد لك ساعاتك الاربع لأنزل في وطني الصغير الأحمق هناك في الاسفل أسير على تراب التل …خطوات اخيرة …
وطني الذي زعم الثورة ذات يوم …تبين انه ليس اكثر من كذبة عابرة …ليس به من رجال الا نهابة مفلحون في أكل التراث …مقرف هذا الوطن الذي يتقاسمه النهمون …لا أحد يترك لفقير عشاءه… ثم يزايد بمحبة الفقراء …اية قمامة منتنة هذه النخبة …وأي مسار تخطه للوطن…لا وطن لها إلا الغنيمة الجاهزة .. لا وطن يعرفون إلا ما حملت مطامعهم من رغبة في التحكم الجاهل في مصيري …انا ابن هذه الارض وملحها و مياهها لا اشرب من وعائكم يا لصوص … اني اخزيكم بالحياد كما اخزيت ربكم الذي علمكم ان تكونوا صغارا كالبق لابطا بالجدران…
رأيت اوطان الاخرين و مجدهم مرفوعا بأقل الاكاذيب في التلفزة …
وصلت قدماي الارض …فوق تراب التل أسير … لا شيء يدعوني الى خط الوصية الان خوف الموت ينقلب احساسا باني من الخالدين…لكني خائب لا يعزى …
انظر فأرى قلبي ينهي احتفالاته بالوطن …لقد سرق النخبة وطني من يدي …جاؤوا رجالا وعلى كل طائر ومن كل فج بعيد وخرج آخرون من زوايا المواخير ومن تحت ركام المزابل .. قوم لم يكن يطيب لهم إلا حديث التملق و الصغار ..صاروا كبارا عليَّ وصاروا قيادة وصرت ثانية من رعية لا تقوم لها قيامة إلا بتقبيل دبر زعيم ..
ايها الوطن السخافة لست اكثر من قبر مفتوح قبل القبر النهائي ..لا عزاء فيك إلا ان نكون من بعض البقر الحلوب..انا الغائب ابدا … لن أدر لك حليبا…لكني قد أموت هنا بعد أن أغلق الزمن بوابة الهروب الى بلاد بعيدة في مدغشقر.. سيكون هذا كرما كبيرا لا استحقه من وطن لا أموت من أجله لأسعد بوهم البقاء تحت زيتونة في الشمال.
ها هي وصية للحياد ..وصية للتطهر وصية قبل السفر الاخير…اكتبها الان بشيء من الروح التي طفرت … وعيني على نور التي تكتب درسها ضاحكة…اخبرتي العناصر ذات صبح اني اموت ذات فجر مقبل وأدفنني تحت زيتونة في الشمال … هنا سأغرس جثتي ذات فجر سيرقص أولاد نور على قبري ويغنون “يا مطر يا خالتي” …. لعل بين يدي الان رغم الربو و السكري والشحوم مهلة جيدة من عناصر المناخ والاجتماع تمنحني سانحة حتى يصير لي احفاد من صغيرتي التي تتعلم ضاحكة كيف تكتب اسمها بلغات كثيرة .
وصيتي التي اكتب الان حيث كتبت تفاحتي التي لا تريد أن تطير معي .
لم يكن لي وطن يحضن ادبي ويرشدني الى نص عظيم. كتبت وحدي كفلاح يتعلم تأبير النخل بلا مرشد . ثم ابكاني الناشرون على نصوصي وضاعت. يرد اسمي صدفة في الرواية فلا يهتم له أحد…نصي هو وطني وقبري ووصيتي للولد وشقيقته يحسب الزمن في ساعة صنعها اخرون على مقاس بلادهم.
قتلني وهمي ان سيكون لي نص مثمر كسلة تفاح من سبيبة…وقفت على قمة العجز انادي عروبتي ان اسعفيني …أتوسل اللغة العربية ان تمدني بالمقال الاخير قبل تنفيذ الوصية …نص فقط يحمل اسمي على ظهره كشاهدة قبر تحت زيتونة في الشمال…
ايتها التفاحة…
النص يقتلني بالغياب لا دية لقتيل القصيد…في كل الحالات ولو جاء نص اخير سيقتلني ناشر التونسي ويكذب أن الوزارة لم تشتر…إلا قليلا لا يعوض كلفة الورق الرخيص…اكتبيني واذبحيني..لأموت جيدا قبل اكتمال ظل الزيتونة التي خطت قبري تحتها في شمال الغبينة … يوما ما سيرقص اولا د نور على قبري ويغنون “يا مطر يا خالتي…
ايتها الشمس في المغرب خذي ساعاتك الاربع وزيدي سأعود الى تفاحة مهملة على رفوف الكتب… لقد عدت الى وطن لا أحبه ولا أجد لي منه مهربا إلا بوهم النص الذي اكتب .. يوجعني ان امنح هذه المزبلة نصا مضمخا بعطور الشرق… ويوجعني ان النص لا يجد قارئا واحدا يحس بين ثنايا الكلام ما انفقنا في خطه من دموع… نص اخير سيموت بين أيدي الناشر التونسي ..هذا انا في العزاء الاخير ..في الطريق الى قبري تحت زيتونة في الشمال …
هل سيذكر اولاد نور اني كتبت يوما رواية من دمي
* روائي وأكاديمي من تونس