“الغرفة 714 سليمة “


*إسراء عبد التواب

( ثقافات )

موظف الريسيبشن كان يستقبلها بعيون مفتوحة وهو يدقق النظر فى هيئتها التى تغيرت بالكامل لم ينظر إلى كارنية الهوية الذى أشهرته فى وجهه كى يسمح لها بالمرورعبر ماكينات الدخول. فقط تجاهل الرؤية وظل يحدق فى عينيها التى تغيرت كثيرا .هولا يعرف ما اسمها أو تناسى اسمها وسط كوم كبير من الزائرين الذين يتوافدون يوميأ لمؤسسة عريقة تشبة عجائب الدنيا السبع ـ تخطاها الزمن وظلت فقط شاهدة على العظمة فى الجدران ـ ولكنه توجس فجأة حين رآها فالوجه مألوف بالنسبة له لكنه صار يربك، وقبل أن تسأم من الانتظار وهو يحدق فى عينيها المرسومتين بكحل غامق بلون الفحم قالت له :أسيب الكارنية ؟؟
فحرك رأسه اعتراضأ وهو يفتح فاه ويرتسم على وجهه أغرب تعبير،ومشت هى لتعبرماكينات الدخول وهو يلاحق قدمها التى تدب على الأرضية بكعب عال. تنتظر الأسانسير وتتذكر معه كل الصفحات البريئة التى صارت تضحكها وكلمات صديق قال لها “ستضحكين بعد سنوات على وجهك المتوضئ وقلبك سيهاجمك ويصرخ فيك ذات يوم :هو أنا إزاي كنت كده ؟؟.
تتذكر وسامة وجهه الأسمر،وعينيه إذ تآسران روحها وتربك جسدها ،وهو يغلق باب مكتبه من البرد،وهي تصرخ :إنت بتقفله ليه .فيضحك مرارا عليها وهو يطمئن خوفها “مش هأكلك “.تتذكر كلماته التى تصفها “رائعة كقصيدة….جميلة كفيلم سينما . مبهرة كلحن …دافئة كبحر ..”
تهرب من وجهه وهى تجري على السلالم مسرعة.وهى تريد الرحيل لصديق يتلبس وجه “أب” تهرول بشغف وتقف لتنتظر تاكسي،وهو معها يحثها على ركوب المترو فهو أفضل وسيلة وسط هذه الأمطار الغزيرة وفجأة توقفه بغباء وبلا ذوق وتقول له “خلاص بقى أنا هأركب إمشى “نظر فى وجهها بإحتقان وأراد ضربها لولا حكمة عمرة التى تكبرها بأعوام تحكمت فى ردة الفعل ،وفجأة تنبهت وحاولت تدارك الموقف :أنا أسفة إنت زعلت.
لم يترك لها فرصة للاعتذار. تركها ورحل وظلت تبكى ولاتجد تاكسي ولا تعرف الطريق للمترو، ويضغط القولون بقوة على بطنها ،والمطر يتساقط بغزارة والضباب يشتد ،وهي تحتفظ بيدها الباردة والمرتبكة فى جيبها . تمسح عينيه التى تطاردها فى الشوارع وتتذكر كل شيء وتغمرها النشوة ،وجسدها ينخر فيه البرد كالسوس، وهى تقف أمام الأسانسيربعدما ركبت .
تدوس على رقم “7” ويتوقف الأسانسير فى الدورالذى اختارته . تخرج منه لترى فى مواجهتها ترابيزة ساكنة فى الطرقة الهادئة تستقبلها . تمنت لو امتلكت موهبة الرسم كى تخط بيدها أناقه تصميمها الذى يشبه البيانو .ابتسمت لها وأقاصيص صغيرة من ورق الصحف تتناثر تحت زجاجها أفسد تأملها . تمشي فى الطرقات الطويلة و تذهب له . وجدران بلون الكراميل الشفاف يؤجج فى روحها البهجة،وأرضية من الجرانيت الفامية تلمع بقوة من النظافة.
“أنا فى مكتبي غرفة من جوه غرفة، سيبي الغرفة الأولى على إيدك اليمين هتلاقيني فى التانية على إيدك الشمال وإوعي تنسي رقمها 714”.تحفظ كلماته التى رددها مرتين لها وهى تدندن منذ صعودها للأسانسيرالرقم فهى دائمة النسيان ظلت تردد مثل الأطفال رقم الغرفة “سوبعومية وأربعتاشر ….سوبعومية وأربعتاشر …سوبعومية وأربعتاشر “حتى تحول إلى أغنية…..
فتحت باب مكتبه وكان مختبئ كعادته وراء الكمبيوتر وأكوام كثيرة من الكتب تتكدس فى شكل أهرامات تغطى جبهته .تبحث عن وجهه فلا تراه بوضوح تقترب منه أكثر لتراه .كانت تريد أن تحتضنه لأن رائحته تذكرها بكل الأحبة الذين فقدتهم والذين رحلوا عنها إلى بلاد بعيدة .يستقبلها بحفاوة تشعر أنها ملكة فى حضرته كلما انهزمت أو ارتبكت أو دخلت دائرة التوهه العميقة تفتح نافذة الشات لتستغيث به .كلما رأت نفسها تندرج إلى الخطيئة تهرول إليه .يستقبلها بعيون الأحبة وهو يجلس فى إصرار واستماته لمقاومة كل ما هو قبيح وكل ما هو مشوه. ما زال يقبض على حقيبته التى تتكدس بالكتب ما زال ينتظرها ليصنع لها كوبأ مميزا من النسكافية الدافئ.
“يااااااااااااااه زمن لم تأت ما الذى حدث ؟؟”
تنظر له فى حب “وحشتني والله ” يمد يده ويسلم عليها ويسحبها برفق قبل أن تنال قسطأ من الدفء بين راحتيه .يمد قدمه المتعبة والممدة من الأوجاع ويعتذر لها ثوانى هأصلي المغرب وهنكمل دردشة
يسحب المصلية الخضراء التى تشبه لون قلبه ويضعها فى مواجهة القبلة تراه يندمج فى الصلاة وكأنه صوفى معذب بوجد الإله.يشكو له كل أوجاع البشر فهو كتوم لا يحب أن يرفع شكواه إلا للقادر.يرفع جبهته وعينيه الحمراوتين المتوهجتين من الصمود تبعث فى قلبها العزيمة لا يستطيع الميل بجبهته على الأرض يكتفى بالصلاة وهو جالس على الكرسي .تجلس قبالته وتتدفق دمعتان على خدها تمسحهما بسرعة قبل أن يراها وهى تتذكرملامح معلمها الذى اختطفه الموت والتى تشبه ملامح وجهه .وقبل أن ينتهى من صلاته نظرت إلى عناوين الكتب المتراصة على رفوف مكتبته التى تلتصق بجدار الغرفة وقرأت عناوين مهمة تمنت لو قرأتها جميعا .انتهى من الصلاة وهو يبتسم فى وجهها ابتسامة دوق إنجليزي وبحب ناداها “فينك ما حدش بيشوفك ليه ؟
ـ كنت واخدة استراحة محارب من الجميع.لم يطالبها بالتحدث فقط قال لها : أهم حاجة تكوني رجعتي لنفسك وعرفتي هى مين
ـ رجعت الحمد لله
– أكيد …؟!
ـ ترد فى ثقة :أكيد
يواجهها فى فرحة :على فكرة أنا مبسوط بيكي جدأ
ـ معقولة
– طبعأ
ـ تريد سماع كلمات الإعجاب منه وهو لا يريد أن يخذلها فيلبي انتظارها بقوله :
لأنك حولت عذاباتك الشخصية لكتابة وده هيحسه القارئ جدأ وهيلمسه .دعي مخيلتك تقودك واتركي لها العنان تدريجيا وهي لن تضلك بل ستهديك إلى صراط مدهش .. ولا تعطي لأحد فرصة احباطك أو إعاقة خطاك .. إمضي مرفوعة الرأس .. واكتبي فقط .. واقرأي كثيرا جدا لأنها وقود الوجدان المبدع.ولا تهتمي بالنفوس الضعيفة لأنها كثيرة فى هذا المجتمع.
لم ترد أن تصرخ فى وجهه أنها محظوظة بكل هؤلاء الكبار الذين يدعمون روحها القلقة،ولكنها لاحقته هذه المرة : إنت مبسوط فى حياتك الجديدة .
نظر لها بغير دهشة وقال : الحمد لله مبسوط ولكن وهج الحب الأول لن ينطفئ أبدا مهما حاولنا تجاوزه بالدخول فى علاقات عقلانية.
تواجهه :”تفتكر التجريب والمغامرة على طول الخط مهم ولا العقل والحذرأهم
يستفسر منها أكثر :”تقصدي إيه بالمغامرة ….أنهي مغامرة بالضبط ؟؟
تؤكد له : أقصد المغامرة فى العلاقات طبعأ
يعترف لها ” أنا فى سنى ده وحتى الآن لم أجد إجابة شافية على هذا السؤال .لدرجة شعرت أن السعادة ستظل منقوصة ،فالذين نغامر من أجلهم ونحبهم قد نصل فى نهاية الرحلة إلى أن نكرههم والذين نختارهم بالعقل نعيش معهم حياة هادئة مستقرة ولكن ينقصها الوهج وكأن الحياة ستسيردائمأ بنا هكذا .هناك كائنات قد نقابلها نشعر معها أنها توأمنا الضائع منذ سنوات عنا ،ولكننا نقابلهم فى وقت غير صحيح، وزمن لم يعد يغري شبابهم وهنا تكمن المآساة.
ترفع عينيها وتواجهه وتعترف له : تعرف إني نفسي أنحرف وأصيع .
ينفجر فى الضحك ويرد عليها ” كان غيرك أشطر أنا بقالي 30 سنة أتمنى أعمل ده ومش عارف
تضحك معه :إيه الأدب إللى إحنا فيه ده أنا زهقت بجد من نفسي كل ما أمشي فى طريق مش صح ألاقى حد بيوديني للصح، هو ما فيش حد بيودينى للغلط ليه ؟؟…تفتكر ليه ….؟؟…هو الغلط خاصمنا ليه ؟؟؟
يضحك بقوة ويواجهها : لأنك إتربيتي مسؤولة ،ودى مشكلة بتضيع من الإنسان فرص للاكتشاف ،والكتابة محتاجة تجريب …ممكن يكون عندك أيام جميلة ومحتاجة تدخلى فيها بقلب جامد بس العما إللى إتربينا عليه يخلينا مش نشوفه ولا نستمتع بيه
تواجهه فى قوة : تعرف إنى ساعات بأحسد “محمد شكري ” فى روايته ” الخبز الحافي ” إنه عاش بالطول والعرض وبصق على الجميع وعلى نفسه ولم يهتم أن يقول عنه أحد أنه صعلوك كبير
يؤكد على كلامها :على فكرة بعض النقاد استقبلوا الرواية واعتبروها بذيئة ولكن من يتأمل بها يعرف أنها تعبر عن بطل أنقى منا جميعأ
ـ تفتكر؟؟ بس للأسف كان بيكرهه أبوه أوى عمرى ما شوفت حد تمنى إن أبوه يتعذب ويموت زي ما هو إتمنى له
يصحح لها التلقي :لأنه كان بيضرب والدته ضرب مبرح وإللى كان بيأزمه أكتر لما يسمع تأوهاتها معاه وضحكها ليلأ.ده كان بيجننه أكتر ويخليه يكرهه بشراهه.
فجأة تتوقف عن الكلام وعينيها تسافر فى كل أركان غرفتة وتردد “714 ” .لا يطالبها أن تتحدث . ينقر بيده على موس الكمبيوتر ويكتب على الكيبورد بضع كلمات حتى تنتهى من تأملها تلتقط بيدها عناوين جديدة لمجموعة من الكتاب الشباب المتراصة على مكتبه ،وتقرأها على عجل ولا تثير اهتمامها
وتشكره : على فكرة أنا قرأت كل الكتب إللى بعتهالي على الميل وبقيت مجنونة برواية “جنوب الحدود غرب الشمس “لهاروكى موراكامى “
يرفع نظارته وتطل عينيه العميقة من تحتها وهو يؤكد لها أنه كاتب مدهش
تسأله : ليه “الغرب ” بيعرف يعبر عن نفسه أحسن مننا بكتير
يرتشف الشاى الأخضروقبل أن يضع الكوب على المكتب يمنحها التفسير :لأنهم حقيقيين أكتر مننا وبيعيشوا فى مجتمع كل شيء فيه واضح حتى لو كان فج ،وإحنا هنا عقدنا كل شيئ حتى تحولت جميع العلاقات لسلسلة محكمة الإغلاق كل ما تقومى بفك عقدة منها تجدين عقدة أخرى تلاحقك وتستمر الدوامة.
تعترف له ” أنا بقيت فى دوامة ومش عارفة أثق فى حد ومش عارفة أكتب “
يرد عليها : ….بصى “يا سليمة ” لازم تتخلصى من عقدة إسمك ده وتمنحى شوية لخيالك التفكيك ولجسدك حرية الرقص….فى اللحظة دى بس هتعرفى إزاى تكونى زى “الآخر ” الذى تطمحين للوصول إلى شفافيته
ولكنها تلاحقه هذه المرة : أعبر إزاى وأكتب إزاى والناس هنا كل أمورها مختلطة كل الحاجات بتدخل فى بعض وبتزحم راسى بالفوضى تخيل قبل ما أجيلك وقفت تحت يافطة ” شركة التأمين عشان تحمينى من المطر “وفوجئت بشخص يرفع لى يده علامة النصر ويرسل لى قبلة فى الهواء وبعدها أخذ آخر نفس فى سيجارته ورماها فى المياة وصعد الرصيف الموازى وتأبط يد حبيبته
يهتم بكلماتها :إتضايقتى صح ؟
ـ لاء قولت بس إتفووووووووووووووووووه.
ينفجر فى الضحك ويرتشف مزيدا من الشاى الأخضر ،ويحرك كرسيه فى حركة دائرية عنيفة ويصرخ من عليه قبل أن يقع به “وقفينى “
فتنتفض من مقعدها وتجرى عليه وتضغط بيدها على الكرسى الدوار لتوقف دورانه
تنظر فى عينيه الدافئة الحنونة وهو يقول لها: دلوقتى فهمتي قصدى
تطأطئ رأسها بآسى :فهمتك.
تنفجر فى البكاء وتصرخ بس ده جنوووووووووووون فين الحقيقة ؟؟؟؟
يمد يده لها بمنديل أبيض وهى تنتظرمنه أن يجفف دمعها بيده ترفع عينيها المتوسلتين وهو يجلس فى مكانه بثبات دون أن يتحرك ويقول لها: “تعلمى دائمأ تجفيف دموعك منفردة ، فلن أعيش لك طول العمروافتحى أنفاقا لأسرارك الخاصة بقلبك .فهذا الفضاء الذى نعيش فيه ملوث وفى زمن التشوه يجب أن نخبئ السمك بعيدأ عن القطط “.
تقول له “سأمنح هذه الغرفة إسمي تنتفض من مقعدها فجأة ،تمشى دون أن تودعه وتخرج منها للطرقات الهادئة وجسدها يدوركراقصة بالرينا ويدها تدور مع حقيبتها البنية فى الهواء وتغني “الغرفة سوبعومية وأربعتاشرإسمها سليمة ….الغرفة سوبعومية وأربعاتشر سليمة ……الغرفة سوبعومية وأربعتاشر سليمة.

* كاتبة من مصر.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *