فاروق شوشة
توقَّفْ..
فهذي هي القريةُ الهاجعة
هي القدرُ الحاكمُ المستبدُّ
هي الدورة المستكنَّةُ فينا
إذا ما أطلَّ الصباحُ البئيسُ
بأثقالهِ،
وحين يعودُ المساءُ التعيسُ
بأحزانه،
وبأغلالهِ،
فنرحلُ عند انسكابِ الظلامِ
ونَشْرعُ في فضْحِ ما يتخفّي
وراء الغيابِ،
وما يتشكّلُ من كائناتِ الخرافةِ
وهي تُلاحقنا في المدي المتلاشي
وترصدُنا في انحناءاتِ هذا المسارِ البهيمْ
وفي سطْوة الظلمةِ الطالعة
كأنَّ فضاءً بأوزارهِ يشتعلْ
وهمًّا بأثقاله، تحت وطْء الخُطي، ينتقلْ
وثَمَّ دخانٌ يَصدُّ العيونَ…
ولا مدخنة!
وقريتنا تشتهي عنبَ الشامِ
لكنها تكتفي بالكلامِ!
وهذا هو النهرُ منكسرٌ في الغيابِ
وفي أبعد البُعْدِ
لم يبْق مما يلوحُ
سوي مئذنة!
وبين ثنايا الظلال التي تترامي
كأغصانِ أُمِّ الشعورِ
تدلّت إلي حافة الماءِ
مثل شياطينَ عجْلي تُلاحقنا
ولها أوجهٌ جائعة!
حواديتُ ممكنةٌ
ودهاليز مُرعبةٌ
وأنين نساءٍ عرايا
يزلزلُنا من وراء الحوائطِ
ينداح بالقرب منا
وثَمَّ نباحٌ يؤكدُ
أن الحواجز آمنةُ
والدروب مواتيةٌ
والخطي،
- حين تملؤنا الرغباتُ الحبيسةُ
تشعل من وجدنا للصبايا-
هنالك..
لـمَّا تعدْ ممكنة!
>>>
وثمَّ قطارٌ يمرُّ
وصافرةُّ تترنَّحُ
فوق القضيب الذي قد تهالكَ
وهي تدغدغُ أحلامَنا بالسّفر
وعند المحطة راح يهدّئُ
نُسرع نحن الصغار
لكي نعبر الترعة الفاصلة
ونمضي علي جسرها المتداعي
ونقفز مثل الأرانب في العربات البليدة
ليمضي بنا
حيث وجه المدينةِ، والمدرسة
ودار الزمانُ بنا
حين عُدنا
فلمّا يعدْ للقطار مكانٌ
ولا بقيت تُرعة كان كورنيشُها الـمُتوهّمُ
شاطئنا
حين نمضي لرحلتنا في المساء
ونزحم مقهي يُطلُّ عليها
وعالـمُنا هو هذا اللقاء
سنقرأُ يومًا
ونلعبُ بالنَّرْدِ يومًا
ويمتدٌ حبلُ السَّهر
نجوعُ،
فنسطو علي ما تجودُ به الأرضُ من حولنا
غُزاةً من الجنِّ
نمعنُ في نزقٍ، واشتهاءْ
لعلّ الذي قد حصدناهُ
يُسكتُ جوع البطون
يجعلنا مرّةً سعداء
ولم نكُ ندري ونحن نمارسُ فتكْتَنا
الغادرة
بأنّ الذي قد حصدنا من الأرض
يقضي علي حُلمِ أصحابها الأشقياءْ
إذا ما تكشّف وجه النهار
وكلُّ الثمار التي أنضجتْها هباءْ!
>>>
وقريتنا
تتزاحمُ فيها المقابرُ
وهي تلاصق جُدرانَ هذي البيوتِ
تُطلُّ نوافذُها
لا تري غير قافلة الموتِ
رائحةً، غادية
ولـمّا يزل حالُها من قديم
تجاورُ وجه الممات ووجه الحياة
ومن عجبٍ
أن ركب الصغار الذين أتوْا بعدنا
يعيشون أيامهم
لا يرون الأمور كما كان يشغلُنا
زمنٌ فائتٌ
وحياة مراوغةٌ
حين كان طريق المقابر يملؤنا بالفزع
فصار طريقًا للهو الشباب
وأُنسهمو بفنون الـمُتع
وكان الزمانُ زمانًا لنا
ولكنه الآن ضاق كثيرًا
وما عاد يومًا
لنا يتّسع!
>>>
وها أنت تمضي،
تلاحقك القرية الزاحفة
تراها حواليك في القاهرة
بقلب الميادين،
خلف البيوت،
أمام الدكاكين،
ملْءَ الشوارع،
والأرصفة!
تجرجرُ أشياءها التالفة
وتعرض سوأتها للجميع
وتمعن في البغي والعهر،
تهزأ بالباحثين عن الزمن المتواري
وراء ستائر جدرانها
حين كان الزمان جميلا
وكان الكلام جميلا
وكان التحَضُّر آيتها الباذخة
تريَّفت القاهرة
فصارت وكلُّ الكفور سواء
بفضل طواغيتها
وأشاوسها
ومغتصبي كلّ ألوان زينتها
ومجالس عشاقها
ومفاتن بهجتها
بفضل تحلّل أعضائها واحدًا واحدا
وتفسّخ حكامها جاهلاً بعد آخرْ
وطمس معالمها في العراء!
وها هي تمضي بنا
تجُرجرنا خبْطَ عشواءَ
نحو مزيد من القبح والفاحشة
تلاحقها أعينٌ واجفة
وتلعنُها أنفسٌ عازفة
متي تُقبلُ الكاشفة
( أخبار الأدب )