القاص العماني محمود الرحبي: أخاف على أفكاري أن تفسد ..!


حاوره : جهاد هديب

في السابع والعشرين من الشهر الماضي في مسقط تسلّم القاص العُماني محمود الرحبي جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون لدورتها الأولى، التي جرى تخصيصها للقصة القصيرة، عن مجموعته القصصية “ساعة زوال” الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة بالعاصمة الأردنية، وذلك من بين قرابة أربعين مجموعة قصصية أخرى عُمانية وعربية تنافست على الجائزة. “الاتحاد” نشرت غير مرة مراجعة لهذه المجموعة المميزة، التي تقوم بنيتها الأساسية على محاكاة أساليب السرد العربي الموروث وتقنياته من جهة، وعلى الاستفادة من القصص الشعبية والمحكي وما هو “غير مكتوب” تقريباً مما تتناقله الألسن وتحفظه السطور.

لدي قناعة راسخة بأنه لا يمكن للجوائز أن تصنع مبدعاً، كما أنها لا تعني بأن مَنْ لم يفز بها هو في ذيل القائمة. لقد فازت مجموعتي “ساعة زوال” ضمن مسابقة حرة تنافسية وقد زاحمت قرابة الواحد والأربعين عملًا ثم شقّت طريقها حتى وصلت إلى رأس القائمة. تركتها تفعل ذلك وحدها. تركتها في عهدة المنافسة ومضيت منشغلا بحياتي، ويبدو أن اللهاث كان عالياً والمسافة طويلة وشاقة، والتنافس لم يكن هينا وسط مجموعات لا تقل قيمة فنية عنها. لكنني لا أخفيك أنني فرحت كثيراً حين فزت بالجائزة، لقد زادني هذا الفوز ثقة بما أفعل… هكذا تحدث محمود الرحبي عن الجائزة، وحاجة المبدع إليها لينفتح بعدها هذا الحوار الذي أجرته معه “الاتحاد” عبر الإنترنت على قضايا أخرى كثيرة. هنا نص الحوار.

◆ ألا يبدو لافتاً أن تنتبه إدارة الجائزة إلى حقل القصة القصيرة لتكون انطلاقتها معه؟ كيف ترى الأمر بوصفك القاص الذي حاز الجائزة لهذه الدورة؟
 

◆◆ بدءاً، ستكون جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون من بين الجوائز العربية الكبرى، هذا ما أتوقعه، إذ أرى أنها إضافة جديدة وهامة لاسم عُمان، وطنا وأدباء، وكانت لفتةً، في مكانها وزمانها، من القائمين عليها بأن يختاروا القصة القصيرة في النسخة الأولى منها، ذلك لأنه يوجد تراكم كبير من المجاميع القصصية في عُمان والخليج العربي وسائر المنطقة العربية، خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، الأمر الذي لم يكن يضاهيه أي تراكم في الأجناس الأدبية الأخرى.

◆ هل تعتقد أن هناك أسباباً فنية معينة منحت “ساعة زوال” هذا الفوز؟

◆◆ لا أعرف على وجه التحديد ما الذي أشار إليه تقرير اللجنة المانحة، وكل ما أعرفه أن المجموعة قد انكتبت في سنتين، وثمة قصصا كتبت قبل ذلك وأخص هنا القصة الأولى “ساعة زوال” التي منحت الكتاب اسمه، حيث كتبتها على مراحل متقطعة وهي مصاغة بتقنية تجريبية تعتمد “التوليد الحكائي” المستمد من تراثنا العربي العريق وخاصة المقامات حيث تولد حكاية من رحم أخرى.

كنز الحكايا العمانية

◆ رأى العديد من الذين تناولوا “ساعة زوال” في مراجعاتهم أن هناك خصوصية عمانية أيضاً.

◆◆ بالفعل، عمان مكان ثري، إنها كنز هائل من القصص والحكايات والذكريات. في عمان ثمة إنسان حقيقي يشقى ويفكر ويتأمل ويعمل ويتعلم ويزهد ويرى الحياة بعين الإصرار. في عمان ثراء تاريخي يفاجئنا كل يوم بما هو جديد ومذهل، المدفون منه أضعاف المكشوف والظاهر منه جزء مما سيكشفه قادم الأيام. كل صخرة وجدار طين، كل حبة رمل قديمة تعني حكاية وتميمة لحكاية ووميض لحكاية وسؤال عن حكاية.. كل جدار في قلعة أو حصن يعني حكاية.. كل لفتة ظل تعني حكاية.. كل عشبة جبلية تعني حكاية.. وكل رداء علقته الريح في شجرة غاف أو سدرة يعني حكاية. ثم لا تنس أن القصة بمعناها الحديث هي تطوير شكلي لهذه الحكاية، حيث لابد للقصة من أن تدثر حكاية تحت بطانيتها الجديدة، وفي نظري كل قصة لا تكتنز حكاية هي محض لعب لغوي جميل ولكنه لا يترك أثراً وراءه.

◆ إذن كيف تروي قصة أو تسردها هي المسألة، وليس الحكاية في حدّ ذاتها؟

◆◆ هذا أمر يراه كل واحد منّا بطريقته، لكن لا أحد يدرك صعوبة كتابة قصة مقنعة إلا كاتبها، الأمر شبيه بولادة في صحراء، فحين تدركك الفكرة في غير مكانها، فإن الأمر يشبه المشهد الطريف الذي كنت أراه وأنا صغير في سوق السمك في “مطرح” عندما يضيء أحد مشتري السمك الأضواء الرباعية الجانبية لسيارته ثم يشقّ بها ازدحاماً في الطريق مستعجلاً لأنه يحمل سمكا يخاف عليه أن يفسد. تساءلت مرة: هل يمكنني أن أفعل ذلك، وأنا أحمل في رأسي فكرة أخاف عليها من أن تنسى. الأمر شيء شبيه بذلك ربما، فالفكرة يمكن أن تبرق في لحظات الخطر ويجب أن تسجل حتى لا تبخرها حرارة النسيان، حيث لا توجد ثقة بالذاكرة، كما لا توجد ثقة بالفكرة نفسها، هناك عمل آخر ينتظر الصائغ بعد أن يعجن سبيكته، حيث يبدأ العمل الحقيقي المتعلق بكيفية تحويل فكرة عابرة لا يتجاوز التعبير عنها الكلمات السبع هي محض إشارات أولى، ثم عليه أن يجيب على أسئلة يطرحها على نفسه، كيف يمكن تمديدها وشحنها ثم بأي لبوس يمكن تقديمها، بأي شكل لغوي أعني، بعد ذلك وحين أنشرها يمكن أن أتلقى ملاحظات من أصدقاء تكون أحيانا تنبيهية، حيث إن الكاتب، أحياناً، يكون أعمى وهو يكتب، فلا يرى أبعد مما بين يديه وينسى أشياء كثيرة ولابد له من أعين كاشفة تعينه. القصة شقاء لذيذ، شيء يشبه البحث عن الذهب في برك الأمازون أو يشبه تسلق نخلة بعد صلاة الفجر، أو يشبه الصيد عند الغروب فوق قارب صنع من خشب الساج، كما يمكن أن تشبه مشهد الشروق في شاطئ الحيل أو احتضان طفل، تشبه كذلك مداعبة الطفل نفسه. وربما هي شفاء مفيد ضد الحيرة والقلق والفصام الذي تعيشه معظم مجتمعاتنا في الجزيرة العربية بين ماهو وافد بقوة وماهو ثابت بقوة.

أثر الآخر

◆ كيف يمكن أن تتحدث عن السرد إجمالا، وكيف ترك أثره في كتابتك للقصة؟

◆ ◆ من أوائل القصص التي قرأتها قصة تحمل عنوان (في قبوي) للكاتب الروسي الأشهر دوستويفسكي صاحب رواية “الإخوة كارامازوف”، التي قال عنها العالم الفيزيائي أينشتاين بأنه تعلم فقط من الفصل الثاني منها ما لم يتعلمه من أساتذة الرياضيات في حياته، لنتأمل هنا كيف تتداخل العلوم الصحيحة بالأدب والخيال وتفيد منه. كذلك من أوائل القراءات كانت قصة ذات أجواء شرقية كتبها الألماني هرمان هسه تحمل عنوان “سد هارتا”، كان يمتح من روح الشرق، كما فعل بورخيس الذي تأثر بألف ليلة وليلة والمناخات الشرقية والعربية منها بصورة خاصة، كذلك الحال مع كازنتزاكيس الذي يفخر بأصوله العربية القديمة، ومؤخرا كما يفعل البرازيلي باولو كويلو، الذي حين نقرأ روايته ذائعة الصيت “الخيميائي” نرى بوضوح أجواء الشرق العربي وأسماء مدن من قبيل القاهرة وطنجة وبغداد وغيرها.

وهذا الأمر لا يقتصر على قراءة ومعاينة الأدب وحده، فالشرق جاذب بطبيعته الثرية، نرى ذلك بوضوح في الفن التشكيلي خاصة الانطباعي منه، حيث نرى الزرابي والظلال الشرقية والمرأة بزينتها ولباسها الشرقي. مؤخرا قرأت دراسة عن بيكاسو، الرسام الإسباني الأشهر، وعن تأثره بالأجواء العربية رغم أنه لم يزر بلدا عربيا أو يتأنف من ذلك، وكانت الدراسة تعتمد على قرائن علمية مؤكدة معتمدة على المنمنمات الشرقية والزليج القاشاني وغيرها من العناصر الجمالية المتوافرة في مغرب الوطن العربي مثل فاس والقيروان وتلمسان، وكان من أسباب ذلك أن عناد بيكاسو منعه من الاعتراف بتسلل الروح العربية إلى لوحاته، وهذا ما أثبته الزمن بوضوح فيما بعد. هذا كلّه كان مؤثرا بالفعل.

◆ ماذا عن المراحل المبكرة أكثر؟ ماذا عن الطفولة مثلا؟

◆◆ في طفولتي كنت شغوفاً بمادة التعبير، وأذكر مرة أنني كتبت موضوعاً حول أحد الأعياد الوطنية في بداية الثمانينيات، المدرس رفض قبوله بحجة أن من غير الممكن أن أكون كاتبه، فكيف لهذا الطالب الضعيف في كثير من المواد الدراسية أن يكتب نصا تعبيريا قويا من وجهة نظره، حيث أخذ يقرأ ما كتبته بسخرية أمام الطلبة، وطلب مني في الحال أن أكتب تعبيراً مشابهاً، فلم أستطع أن أكتب أكثر من سطرين تحت ذلك الضغط النفسي.

◆ أعلم أنك قد أنهيت دراستك الجامعية في المغرب، ما الذي منحتك إياه إقامتك هناك؟

◆◆ لقد أتاحت لي فترة دراستي في المغرب أن أعمق من تجربتي في القراءة والكتابة. كان المشهد في الرباط يزخر بمثقفين وأكاديميين كثر، خاصة في جامعة محمد الخامس ومكتبتها الوطنية التي تعتبر أكبر مكتبة وطنية في شمال إفريقيا وكنت اقصدها مشيا كل يوم من مكان سكناي، وما زلت احتفظ حتى اليوم ببطاقة عضويتي فيها.

هناك استطعت أن أتابع برنامجا من الندوات والمحاضرات التي قدّمها كتّاب عرب ومغاربة لم يعودوا الآن على قيد الحياة، مثل روجيه جارودي ومحمود درويش ونزار قباني وإيميل حبيبي ومحمد عابد الجابري وعبدالكبير الخطيبي والمستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك مترجم معاني القرآن الكريم للغة الفرنسية وآخرين غيرهم، كما سنحت لي الفرصة لأن أشاهد عشرات المسرحيات والأفلام السينمائية حين كنت كذلك عضوا في مسرح محمد الخامس الملحقة به قاعة سينما صغيرة، تعرض فيها العيّنات النادرة من الأفلام السينمائية القديمة كالسينما التعبيرية الألمانية وغيرها.

هناك، بدأت الكتابة، وأذكر أنني كتبت قصة، ضاعت مني الآن وكانت تحمل عنوان “قرية يبيدها المطر” أو شيء شبيه بهذا الاسم، وأذكر أني حين أعطيتها لعالم الاجتماع السوداني إبراهيم حيدر المقيم حينها بالرباط، استحسنها بقوة وشجعني على نشرها؛ فأرسلتها لجريدة القدس العربي ونشرت، ثم أرسلت لهم تباعا قصصاً أخرى بعد ذلك، والتي تضمنت الكثير منها مجموعتي الأولى “اللون البني” والتي كانت بوابة الانطلاق لي فيما بعد.

( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *