سان جون بيرس: “شعرية العصر النووي”


تقديم وتعريب : محمد العرجوني *

( ثقافات )

سان جون بّيرس، إسم الشهرة، أو كما يظن البعض، إنه قناع سيسمح لحامله بالتألّق و لشعره الذيوع. إسمه الحقيقي هو: ألكسيس سان ليجي. ولد في جزيرة الغوادلوب (بحر الكرايبي)، إحدى المقاطعات الفرنسية لما وراء البحار، عام 1887 و توفي بجزيرة جيين عام 1975. عاش وسط التقاليد الأرستقراطية الفرنسية، وورث منذ ولادته أبّهتها، وكما يقولون، فطر على زبدة النّبالة الفكرية والأخلاقية. أصبح فيما بعد ديبلوماسيا، الشيء الذي سمح له بأن يصبح السائح النّبيه في أمصار المعمورة. كتب المجموعات الشعرية: “مدائح” (1911)، “أناباز” (سفر استكشافي داخل البلاد) (1924)، “منفى” (1942)، “أمطار” (1944)، “ثلوج” (1944)، “رياح” (1946)، “مرارة” (1956)، “وقائع” (1960)، “شعر” (1961)، “طيور” (1962)، “”من أجل دانتي”(1965)، “نشيد من أجل اعتدال” (1971)، “ليليّ” (1973)، “جفاف” (1974)… و سوف تتوج أعماله الشعرية المتفرّدة بجائزة نوبل للآداب سنة 1960.
يعتبر من أبرز الشعراء الرمزيين الفرنسيين الذين بصموا النصف الأول من القرن العشرين. هناك من يصنفه ضمن الشعراء السرياليين انطلاقا من مراسلاته مع أندري بروتون وجان بولان. إلا أن شعره يشكل وحده مدرسة عصية، نظرا لموضوعاته القصيّة وصوره الباذخة المرتبطة بالطبيعة، حيث نجد أسماء الطيور والنباتات والحشرات إلخ…يعتبر فلكا وسط المدار الشعري الذي يدور وسطه كل من جان بول فاليري وبول كلوديل، من فرنسا، وفريدريش هولدرين وغيورغي تراكل من ألمانيا، وراينر ماريا ريلكه من النمسا. تتجلى وظيفة الشعر، بالنسبة إليه، في كونه تجميد للكينونة الإنسانية وتبجيلها وسبر أغوارها لكشفها وإنارة عتماتها. سوف نجد شعره متشبعا بروحية الشرق الأوسط، مندمجة في ثقافته الإغريقية واللاتينية المسيحية. الشيء الذي ربما أعطى لشعره نكهة خاصة، تنطلق صوره من الخيال وإلى الخيال عبر لغة نصفها واضح والنصف الآخر غامض تعتمد على التضاد والصور المفتولة واللامتناهية، تثير الدهشة تلو الدهشة لدى القارئ الذي عليه أن يكون أديبا وعالم طبيعة وطيور وفلك وأسطورة..


لقراء هذه الترجمة/الخيانة، لقصيدة: نشيد من أجل اعتدال. هي خيانة أتمناها أن تكون جميلة لتقريب القارئ العربي بهذا الشاعر الذي يستعصى حتى على القراء باللغة الفرنسية، وعلى الفرنسيين أنفسهم. ولأن الشعر نفسه يعتبر ترجمة للأحاسيس، أجد نفسي واعيا تمام الوعي أن ترجمتي هاته، ما هي إلا ترجمة للترجمة، وبالتالي فإن النص المترجم يصبو إلى أن يكون إبداعا جديدا، على مستوى الدرجة الثالثة…


نشيد من أجل اعتدال ( 2 )
***
قصيدة:
سان جون بيرس
***

في ذاك المساء كان الرعد يدوي، وفوق الأرض ذات القبور لذاك الجواب المدوي كإعلان للإنسان أرخيت أذني، موسوم بالاختصار كان، عبارة عن ضوضاء.

يا صديقتي،كان وبْلُ السماء حليفنا، وليل الرب تقلبات أجوائنا،
وبكل الأمكنة، كان الحب يرتقي نحو ينابيعه.

أعرف، لأني رأيت: الحياة ترتقي نحو ينابيعها، و البرق يجمع أدواته بالمقالع المهجورة،
ويتكدس الصواح الأصفر، في زوايا السطوح،

وباليمّ تلتحق نطفة الإله بطبقات عَلقِ البحر البنفسجية.
ويصبح الإله المبدد مثلنا متعددا.

++

مولاي، سيد الأرض، انظر الثلوج تتساقط، والسماء من غير تصادم، والأرض محررة من كل بردعة:
أرض شيت(3)، وشاول(4)، أرض شي هوانغ-تي(5)، وخوفو(6).

إن صوت الإنسان بالإنسان، وصوت الفولاذ بالفولاذ، وهناك في مكان ما بالعالم
حيث لم يكن للعالم صوت ولا للعصر حِرص،
ازداد مولود بالعالم لا علم لأحد بعرقه ولا بمرتبته،
وسددت العبقرية ضربات موفقة بفصوص جبهة طاهرة.

أيتها الأرض، يا أمنا، لا تقلقي من هؤلاء الرعاع: فإن العصر سريع، والعصر حشد، والحياة تتابع مجراها.
نشيد يعلو بداخلنا لنبعه جاهل ولن يكون له مصب بالمنون.

اعتدال لمدة ساعة بين الأرض والإنسان.

1971

(1) عنوان لدراسة حول أعمال سان جون بيرس: لهنرييت لوفيلان وميراي ساكوت، باريس، يناير 2005، كلنكسيك (Klincksieck)
(2) منشورات كاليمار 1975Chant pour un équinoxe, édit. Gallimard,
(3): Seth
(4): Saül
(5): Che Houang-ti
(6): Cheops

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *