فى ذكرى سقوط الأندلس .. وبكاء أبي عبدالله الصغير ..!




محمّد محمّد الخطّابي* غرناطة

( ثقافات )

 

جرت فى الثاني من يناير(كانون الثاني)الجاري (2013) بغرناطة احتفالات رسمية ضخمة فى ذكرى سقوط هذه المدينة التي تعتبر آخر معاقل الإسلام فى الأندلس فى نفس هذا التاريخ من عام1492 وذلك عندما سلّم أبوعبد الله الصغير مفاتيح هذه المدينة للملكين الكاثوليكيين “إيزابيلاّ وفيرناندو”، حيث بدأت لاحقا عملية طرد وإبعاد المسلمين الموريسكييّن التي استمرّت ما ينيف على قرن من الزّمان. وحريّ بنا أن نلقي بهذه المناسبة المفجعة إطلالة عجلى على رؤية إبداعيّة غربيّة منصفة لأحد الكتّاب الإسبان الكبار المناهضين لمثل هذه الاحتفالات المجحفة التي تنكر تراثا إنسانيا فذّا ، وإشعاعا حضاريا ليس له نظير، وتخلّد ذكرى الموت والدمار والتصفية الإثنية والعرقية، وتوصد أبواب التسامح والتعايش والحوار بين الثقافات والأديان. وهي رواية الكاتب والشاعرالإسباني المعروف “أنطونيوغالا ” “المخطوط القرمزي ” التي تعتبر من أروع ما كتب فى لغة سيرفانتتيس فى الأدب الإسباني المعاصرحول مأساة آخر ملوك دولة بني الأحمر السلطان أبي عبد الله الصغير(* *)، (وكلمة القرمز التي إستقرّت في اللغة الإسبانية وتنطق(كارميسي) هي كلمة معرّبة تعني صبغ أرمني أحمر يقال إنه من عصارة دود يكون في آجامهم). كان الكاتب قد حصل بهذا الكتاب على جائزة “بلانيطا” الإسبانية فى الرّواية التي تعتبر من أهمّ الجوائز الأدبية التي تنظّم فى إسبانيا إلى جانب جائزتي “سيرفانتيس” و”أمير أستورياس” .

إضافة إلى معالجة مأساة هذا الملك المنكود الطالع ،أراد الكاتب من خلال هذه الرواية التاريخية كذلك إزاحة الستار عن الوجه المروّع والأسود-على حد تعبيره- لما يسمّى باكتشاف أمريكا، كما أنّه كتاب يتحدث عن اكتشاف من نوع آخرفي نفس ذلك التاريخ الذي وصل فيه “كريستوفر كولومبوس” إلى العالم الجديد. يحاول هذا الكتاب أيضا تسليط الأضواء على ما أطلق عليه من باب الخطأ والشطط ؛ الاسترجاع أو “الاسترداد”،حيث يقول المؤلف : “فأنا لست على يقين أن ّإسترجاعا أو استردادا يمكن أن يدوم ثمانية قرون، ففي عام 1808 عندما تمّ غزو إسبانيا من طرف الفرنسيين دامت حرب الاستقلال أو “الاسترداد” خمسة أعوام لا غير”.و يضيف “غالا “بالحرف الواحد : ” إنّ الاسلام هو نحن، ولا يمكن أن نسير في اتجاه معاكس لما هو بداخلنا، فإسبانيا بدون إسلام لا يمكن فهمها، كما لا يمكن فهم لغتها، لأنّ اللغة الاسبانية هي عمليا لغتان أيّ أنها لغة مزدوجة اللسان فهي لاتينية وعربية أيضا”.

عصرالعلم والحكمة  

                                                                                                                              و يشير”غالا ” أنه عندما بدأ الحديث في كل مكان حول الاحتفال بالذكرى الخمسمائة للاكتشاف(ما أفظع هذه الكلمة) ،قلت إنني سوف أعالج الوجه المرّ لهذا الاكتشاف،واعتقد الجميع أنني سأكتب رواية أمريكية، في حين انصبّ اهتمامي ، على مرحلة بداية إراقة الدم في اسبانيا في نفس يوم 2يناير1492، عندما تمّ تسليم غرناطة ، حيث أصبحت إسبانيا فقيرة و منعزلة لمدّة قرون، وأصبحت الدول المسيحية بها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارات السامية العربية و الاسلامية فيها ،عندئذ انتهى عصر العلم و الحكمة و الفنون و الثقافة الرفيعة و الذوق و التهذيب ، و تمّ مزج كل ما هو قوطي و إسلامي المحمّل بكل ما هو ناعم و رقيق، بالمعارف العربية البليغة ، و كان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزوا ، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحا ثقافيا أكثر من أي شيء آخر ،ممّا جعل الاسبان يسبقون عصر النهضة بحوالي قرنين، الا أنه بعد يناير 1492 إنتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع وإدارة الاقتصاد، والفلاحة، و كذا الأعمال و الأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب و اليهود، و ظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة و مغمومة و مخذولة، وكان عليها أن تنظر الى الخارج، ومن ثم كان ما يسمّى بالاكتشاف.” وهكذا يشير”غالا”: “أنّ المخطوط القرمزي ليس قصّة تروى إنتهت بانتهاء أحداثها، بل إنّ آثارها ما زالت قائمة حتى اليوم، ذلك أن التاريخ عادة ما يرويه أو يحكيه المنتصرون. و هم لا يكتفون بذلك و حسب، بل يعهدون إلى تشويه وشطب تاريخ الآخر المغلوب وتزويره”. ويضيف “غالا “أنّ مكتبة قصر الحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة “مدينة الزهراء” التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلد، وقد أحرقها أسقف طليطلة (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكان يسمّى “باب الرّملة ” بمدينة غرناطة، فاختفت العديد من الوثائق والمخطوطات، والمظان، وأمّهات الكتب النفيسة و الغميسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف في الأندلس “، ويقال إنّ الجنود الذين كلفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها، إذ كان معظمها مكتوبا بماء الذهب والفضّة آية في الرونق والبهاء، ويا لعجائب المصادفات، وغرائب المتناقضات، ففي نفس المدينة التي نقل إليها ما تبقّى هذه الذخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوط) التى نجت من الحرق وهي مدينة “قلعة النهر”(ألكلا دي إيناريس) و تمّ إيداعها في الجامعة التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسه بها سيولد فيما بعد الكاتب الإسباني العالمي المعروف ” ميغيل دي سيرفانتيس” صاحب رواية “دون كيشوت”الشهيرة المستوحاة فى غالبيتها من التراث العربي كذلك ،كما يؤكّد معظم الدارسين الثقات في هذا القبيل.

ملك ذهب …ومجد ضاع

                                                                                                                                                         و يشير “غالا” أنّه بذل جهدا كبيرا و مضنيا في البحث عن مادّة روايته، وأنه انطلق في معالجته لهذه الشخصية التاريخية بدءا بما هيّئ له أو أعدّ له ليصبح أميرا و ليس حاكما. واكتشف “غالا” أنّ أبا عبد الله الصغير قد أصبح في عيون الباحثين و المؤرخين والناس مخادعا متخاذلا جبانا فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذلّ فتقول؛ ” وافق المسلمون على شروط التسليم ولم يكن في مقدورهم إلا أن يوافقوا، وتنازل السلطان أبو عبد الله عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الرّيحان، فلما مرّ موكب الملكين الكاثوليكيين (فيرناندو و إسابيل) تقدّم فسلّم مفاتيح المدينة،ثم لوى عنان جواده موليا. ووقف من بعيد يودّع ملكا ذهب، و مجدا ضاع،وكان هو بأعماله وسوء رأيه سببا في التعجيل بضياعه” . و كانت كلمات أمّه خير ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: ” إبك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال”، وما زالت الرّابية أو الأكمة التي ألقي منها آخر نظرة على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد فيها تنهيدة حرّى عميقة حيث عاتبته أمّه، تسمّى باسمه حتى اليوم.

محنة المورسكيّين

وهكذا أصبح هو المخطىء و المذنب و سببا من أسباب ضياع ملك العرب المسلمين بالأندلس،ونسي الناس الظروف و الملابسات، وأصبح الذين يحيطون به في حلّ من أمرهم،انطلاقا من هذه المعطيات قرّر “غالا” الكتابة عن هذه الشخصية التاريخية، لإبراز التأثير العربي والإسلامي الضارب بعمق في الروح الاسبانية .
و أشار” غالا “أنّ نيّته و قصده من خلال هذا العمل هو إبراز التأثير العربي و الاسلامي في مختلف المرافق والتصرّفات والسلوكيات الاسبانية،أيّ أنه يتوخّى من وراء هذه الرواية إظهار ما ظل مخفيّا عن قصد وعن غير قصد، وتفنيد كل ما قيل من ترّهات فى هذا القبيل. و يرى” غالا ” أنّ العنصرية لا تعني جهل أو إغفال دور الأجناس الأخرى المختلفة، بل إنّ العنصرية هي القول أنّ جنسه أو عرقه هو أسمى وأرقى من الآخر. و تتعرض الرّواية إلى محنة طرد المورسكيين من إسبانيا ، ويرى”غالا “أنّهم كانوا يفوقون المسيحيين ثقافة وعلما و معرفة وتكوينا، فقد كان هؤلاء المسيحيّون ، أميل إلى التكاسل و التماطل والتواكل ، و كان كلّ همّهم هوالقيام بغزوات وغارات على الممالك العربية أو التهجّم على الجماعات اليهودية، و كانوا يعيشون من هذه الغارات و التهجّمات ، ثم جاء الاكتشاف بعد أن خلد الأبطال المتعبون إلى الرّاحة جرّاء ثمانية قرون من الصّراع والمكابدة، فكان عليهم أن يخرجوا وأن يجوبوا في بلاد الله الواسعة و في الآفاق البعيدة.
و يشير “غالا” أنّ الملكين الكاثولكيين ( فيرناندو و إسابيل) قاما بعد ذلك بتوحيد البلاد عنوة، ولم يعملا على “وحدتها” إختيارا،واستعملا في ذلك الأسلوب نفسه الذي استعمل في غزو أمريكا، وفي كلتا الحالتين عمل الإسبان في العالم الجديد على إخضاع الهنود لمملكتين إثنتين؛ هما مملكة الدّين، ومملكة التاج الاسباني،وهذا ما حدث في إسبانيا بالذات بعد أفول شمس العرب و حضارتهم عنها .
و قد صرّح الكاتب الإسباني “أنطونيو غالا” بأنّ التهجين والتوليد وتمازج الأجناس في إسبانيا هي حقيقة ماثلة لا يمكن نكرانها.
و أكّد “غالا”:” أنّه لا يؤمن بالثقافات المنعزلة،فالثقافة عندما تكون ثقافة (خالصة) هي ثقافة وحسب وهي تكاد بهذه الخاصية أن تكون لاشيء”.
و قال إنّ الشعوب الواقعة على ضفاف حوض المتوسط هي شعوب مثقفة بالمعنى الواسع و العميق للكلمة، لأنّها شعوب عاشت و تعايشت و تفاعلت وتمازجت مع مختلف التأثيرات الثقافية المتداخلة التي تبتدئ من الشرق الأقصى للمتوسط انطلاقا من اليونان، و فارس، و مرورا بروما التي لم تضف شيئا يذكر للثقافة ، و إنما قامت بعملية تنظيم و ترتيب ، ثم وصلت تلك الثقافة الجديدة المشرقة بواسطة الاسلام إلى اسبانيا، وعلى عاتق هذه الثقافة قامت أوربا،فأوربا إذن كما يقول “غالا” هي إبنة “التوليد”ولا يمكنها اليوم أن تصفف شعرها وتترنّح وتتبجّح فخورة بأنها عجوز ذات دم خالص.
نقلت هذه الرواية إلى اللغة العربية بترجمة الأستاذ رفعت عطفة ،وطبعت وأعيدت طباعتها أزيد من عشرين مرّة حتّى الآن ، وفاق عدد نسخها المليون نسخة.
—————————————————————————————–.
(*) كاتب من المغرب مقيم فى إسبانيا.

(**) للأديب الزميل أمجد ناصركذلك كتاب شيّق حول هذا السّلطان العاثر الحظّ تحت عنوان :” فى البّحث عن أبى عبد الله الصّغير” الصّادر عن منشورات “كتاب فى جريدة”(منظمة اليونسكو)عدد134 الأربعاء 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)2009 .والذى يعالج هو الآخر هذه المأساة بأسلوب رقيق، ومضمون عميق. ( أنظر مقالي حول هذا الكتاب المنشور فى ” ثقافات”( قسم إضاءات) تحت عنوان” الأندلس.. ذلك الحلم الضّائع بين ثنايا الزّمن” بتاريخ 15/12/2012 ) .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *