فاطمة ناعوت *
فريقي الموسيقيّ الضخم الذي ترونه الآن، مكوّنٌ من رجال ونساء جاءوا من بلادٍ كثيرة شتّي من مختلف أنحاء العالم. لهذا فهم بشرٌ شديدو الاختلاف. أعراقٌ وألوانٌ مختلفة، عقائدُ ومعتقداتٌ عديدة، أفكارٌ وأيديولوجيات وتوجّهاتٌ وثقافاتٌ متباينة، ولكننا، هذا الجمع المتنافرُ، سيتوحّد بعد برهةٍ في معزوفة واحدة، كأننا نحمل روحًا واحدة، وصوتًا واحدًا، وعينًا واحدة تقرأ نوتةٍ واحدة، وتتبعُ عصا واحدة في يد مايسترو واحد.
نعيشُ معًا، ونعملُ معًا، في سلام وتناغم ومحبة حقيقية لا تعرفُ الشِّقاقَ ولا التناحر. لأن نجاح كل فردٍ فينا، هو نجاحٌ لنا جميعًا، وفشلُ أي عضو منّا، هو إخفاقٌ محقّقٌ للمعزوفة، ولنا جميعًا دون استثناء. وفي هذا تشابه مع مدينة نيويورك. ليس من مدينة أخري فوق سطح الأرض مثل نيويورك تجمع عديدَا من الجنسيات والمذاهب الدينية التباينات العِرقية. يعيشون معًا، ويعملون معًا في سلام وهارموني، دون تناحر ولا نزاعات. وهنا الآن كأننا نقدم 2 أوركسترا لا واحدًا. أوركسترا البشر في نيويورك، والأوركسترا الموسيقيّ الخاص بي.«
كانت هذه الكلمة التي ألقاها ملك الفالس والمؤلف الموسيقيّ الهولندي الشهير أندري ريوو، في قاعة راديو سيتي ميوزيك بنيويورك قبل أن يبدأ الأوركسترا في عزف عدة كونشرتات امتدت ساعات طوالا مرّت كلحظة خاطفة؛ لأن الجمالَ الفريد، كما تعلمون، يمرُّ مرور السحاب.
أما الملك ريوو، André Rieu، فمن مواليد 1949. بدأ عزف الفيولين ودراسته في الكونسرفتوار الملكي البلجيكي من عمر الخامسة. ثم تعلّم علي يد كبار الموسيقيين حتي تخرّج من معهد الموسيقي الملكي في بروكسيل. أسّس ريو أوركسترا »يوهان شتراوس« عام 1987، وقدّم الكونشرتو الأول بعدها بعام بـ 12 موسيقيًّا فقط. في عام 2008 اتسع الأوركسترا ليضمَّ 43 عضوًا ثابتًا، وبدأ يؤدي عروضه باستضافة موسيقيين ومغنين ذائعي الصيت علي أكبر مسارح ودور الأوبرا في العالم. واشتهر الأوركسترا بتقديم الأعمال الكلاسيكية الكبري علي نحو غير تقليدي مع شيء من الرعونة في الأداء الموسيقي، إضافة إلي »كسر الحائط الرابع« بتعبير بريخت، عن طريق التفاعل مع الجمهور ومداعبتهم بالنكات والقفشات والحيل الكوميدية أحيانًا. يضم الأوركسترا الآن ما بين ثمانين إلي مائة وخمسين عازفًا وعازفةً. تلك العازفات اشتهرن بارتداء فساتين فيكتورية فاتنة تنجح في نقلنا إلي عالم الكلاسيكيات التي نُنصتُ إليها في شغف؛ لأن تلك الموسيقي لا تخاطب الأذن والعقل، بقدر ما تتسلل مباشرةً إلي الروح؛ فتعيد ترتيب أوتارها المتنافرة لتضبطها و»توزنها« علي نغمة الجمال النقيّ؛ فيصفو الإنسان ويشفُّ ويكاد يحلّق في علياء السموات.
أكتبُ عنه اليوم ليس لأنني من المفتونين بالفالس، وأضعه دُرّةً فوق تاج الموسيقي، التي أعتبرها بدورها درّة فوق تاج الفنون الستة، كما صنّفها الإغريقُ، أو السبعة إذا ما أضفنا السينما. ولا لأنني تقريبًا لا أعزف سوي الفالس حين أكافئ نفسي بعزف البيانو. ولا لأنني لا يمرُّ يوم دون أن أكافئ نفسي بقطعة فالس لتشايكوفسكي أو شتراوس أو شوبان. ولا حتي لأنني أدركت عبقرية عبد الوهاب حينما سخّر الفالس الغربي في نغم شرقيّ عميق. بل أكتبُ عنه اليومَ من أجل تلك الخطبة القصيرة التي نقلتها لكم بالعربية، بتصرّف، لكي نتأمل عمق فلسفتها.
هل من سبيل لأن نعتبر أنفسنا، نحن المصريين، أعضاءَ في أوركسترا ضخم قوامه تسعون مليون شخص؟ هل من العسير أن ننتظم معًا كمصريين، علي اختلاف عقائدنا وانتماءاتنا الفكرية والسياسية، في كونشرتو متناغم واحد؟ هل صعبٌ جدًّا أن نبني مصرَ معًا دون تخوين أو تكفير أو غلاظة قلب؟ أليس بوسع الشعب الذي بني الهرم وشقّ القناة وشيّد السدَّ وأشعل ثورة يناير، أن يعزف هذا الكونشرتو؟ ماذا نسميه؟ كسّارة البندق؟ الدانوب الأزرق؟ كليوباترا؟ لا، لنُسَمِّه: ” فالس الزهور” .
* شاعرة من مصر
( أخبار الأدب )