هُنا الإمارات


جمال القيسي *


ابتداء وانتهاء، لا أبتغي من هذه المقالة أن تجر لي مغنما، ولا أن تدفع عني مغرما؛ ذلك أني أكتب دوما قناعاتي بقلم حر صريح. قناعاتي التي لم ولن تجامل الواقع يوما على حساب الحق والحقيقة.

في الإمارات، التي وصلتها منذ شهر فقط، أول ما لفت نظري هذه اللوحة الفسيفسائية الإنسانية المذهلة، الجامعة لقرابة مائتي جنسية من شتى أنحاء الدنيا. اللوحة النابضة بالتوافق والتراحم الفريد. الإمارات الحانية على آمال جموع الساعين للرزق والسكن في مناكبها، المرحبة بأحلام آخرين هاربين صوبِ فيئها مبتغين السُكنى.
الإماراتيون يتحدثون بصوت خفيض، يجبرك على الانتباه لالتقاط نبراته، وتحرّي مخارج حروفه، تلك النبرة المحايدة التي توازي عباراتها الموجزة تكثيف الشعر لمّا يبوح بمكنون عميق الكلام، ولدى الإماراتيين – بالتربية والثقافة – ميزة حُسْن الاستماع لمحدثهم حد الصبر الجميل.
تجد عند غالبية الإماراتيين الاعتداد الرائق بالنفس دون خيلاء أو توهم، ويقابلون نظراتك المستفهمة كنه أرواحهم بالابتسامة الهادئة، وبنظرة الحدس التي تزن الكلام بميزان الماس الحقيقي، فقد أورثهم أجدادهم من أسرار ندرة الماس ما يستغنون به عن أوشال بحار الاسترسال.
لدى الشعب الإماراتي المسِفار، الكثير من جميل عادات الشعوب الراقية، بدءا من حرصهم الطبيعي على السلوك الحضاري في كل مكان، وأيضا الابتسام في وجه الغريب، مرورا باحترامهم الفطري لخصوصيات الآخرين، وليس انتهاءً باهتمامهم بأن يكون كل إماراتي سفيرَ محبة لبلاده.
خلال شهر قابلت هنا العديدين من أبناء هذا البلد، وفي دوائر ومناطق متعددة، ومن إمارات مختلفة؛ فلم أجد إماراتيا غير حقيقي في إنسانيته وسلوكه الحضاري، وقد كانوا جميعا يؤكدون لي، برقي أخلاقهم، بأني في دولة متقدمة، وبين أهلي وعائلتي العربية الأصيلة، ولم يخاطبني أي منهم بغير متلازمة “أخوي” قبل اسمي، والتي تتردد على ألسنتهم بحرارة صادقة.
إن بحر الثقافة والابداع غير المتلاطم الذي تمور به الإمارات، يتيح لك أن تقول باعتزاز عميق: أيها الناس، هذه بلادي التي أحملها مع “إخوتي” الإماراتيين إلى العالم رسالةَ محبةٍ كونية. رسالة نور وتنوير، لا شرقية ولا غربية، بل إماراتية عربية، أصلها ثابت، وفرعها في السماء.
ولئن كانت العروبة فكرة تنظيرية محضة في دول عربية كثيرة، فإنها في الإمارات حقيقية وأصيلة؛ وليطربنّ وجدانك العروبي الاهتمام الإماراتي بهوية الأمة؛ حيث النهج الواعي بحقنا كعرب في أن نطل على العالم الخارجي دون أن نفقد أنفسنا.
يحضرني مثال جميل تصر فيه الإمارات الدولة على نهجها في التفوق والتميز، وبلسان عربي مبين، فإنجازها الإعلامي الضخم twofour54 / منطقة صانعي الإعلام في العالم العربي، يحمل في تفصيلاته المتعددة والمبدعة والخلاقة الكثير من الإنجازات والأفكار، والتي لا يمكن إلا أن تؤخذ على محمل التقدير والاحترام، لمن يسعون بأن يكونوا القدوة اللافتة في الإعلام على مستوى العالم.
من ضمن ما تحتويه القلعة الإعلامية العربية الحصينة twofour54 هنالك المختبر الابداعي، الذي يدعم المبدع بلا حدود، ولكن بشرط أن يكون المبدع عربيا!
بلى، فالعروبة شرط تميّز في الإمارات، وربما فقط في الإمارات!
هذا الشرط هو الإمارات، التي تؤكد هويتها الحقيقية في هذا الاحترام العروبي الأصيل للدم والجذور، وهي باشتراطها العروبة في المبدع الذي تدعمه وترعاه، تقطع قول كل خطيب في السياسة والثقافة، في آن معا.

هذه الإمارات التي سلبتني قلبي، وهذه أبوظبي التي يلامس وهجها بشرط العروبة بيْ قيسا ويمنا، ويحاكى قحطان وعدنان، وينادي مضرا وربيعةَ وتميماً، والتي ارتوى بها عطش الصادي للفتة تقدير من أي دولة عربية للمبدع العربي.
هذا هو التحدي الذي لا حجة لمبدعنا العربي من بعده، فلن نقبل منه بعدها التثاؤب أو التمطي، وهاقد ولى زمن ليس فيه من يقدر المبدعين ويكرمهم سوى الغرب، لأنّ هنا الإمارات تقول للمبدعين العرب سارعوا إلى من يقدر إبداعكم، منكم الإبداع ومنا الدعم المطلق والتقدير، ولا شفيع بيننا إلا حبر أقلامكم.
تحية ترقى لتليق بالإمارات، من قلب عربي ينبض بحبها، ويهمس في أذن شوارعها كل ليلة: ضميني يا بلادا تزداد بهاء بأخلاق أهلها العرب الأقحاح، الودودين الطموحين، الحاملين مشكاة الوعي والتنوير والإنجاز والعطاء، وما استلهموه من دوحة الدرر السبع.


* صحفي و روائي من الأردن


( الرؤية العمانية )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *