لانا راتب المجالي *
( ثقافات )
عندما وضع يديه في جيبي معطفه وأخرجهما أمامي، أدركتُ أنّه يطلب المال، ولم أستطع إخفاء دهشتي من طلبه هذا فلم يسجّل مثل هذه السابقة خلال ثلاثة أعوام عرفته فيها; رجل ستيني، يعمل مشرفاً في مكتبة الجامعة، حيثُ كنتُ أمضي أجمل ساعات نهاري، مفضّلة عدم استعارة الكتب. مكتفية بتذوق نكهتها داخل تلك الجدران الدافئة. من هنا بدأت صداقتنا، فقد أدرك رغبتي تلك وتفاهمنا دون كلام على أن يحتفظ لي بالكتب التي لا أستطيع الانتهاء من قراءتها في جلسةٍ واحدة، حتّى عودتي في اليوم التالي، خوفاً من أن يقوم أحدهم باستعارتها.
قال:” أنفقت ما معي لشراء هذا الحذاء الجديد. لا أريد أن أراه متّسخاً بالطين في هذا الجو الماطر. سأركب (التاكسي) “، واكتفى بأخذ دينار واحد ، رافضاً الدينار الثاني الذي عرضته عليه، مُبرراً :” لا;هذا يكفي، شكراً لكِ” .
في تلك الليلة ، أجبرني صوت صرير النافذة المزعج على ترك فراشي كي أحكم إغلاقه. لكنني فوجئت بتلك المرأة المخيفة تقتحمُ غرفتي منزلقة مِنهُ دون أن تكسر حديد الحماية المثبت عليه ، لتأمرني بالعودة إلى فراشي والعدّ حتى الرقم ألف وواحد ، وعندما رفضت بحزم تلقيت ضربة على خدّي الأيسر ، فامتثلتُ لأوامرها وعدتُ إلى فراشي، بعد أن ذكرتني ملامح وجهها بتفاصيل قصّتها التي حفرت في وجداني أثناء طفولتي; أم علي، جارتنا السجّانة الفقيرة التي رفضت عائلتها استلام جثّتها بعد موتها، لأنّها هربت منهم في صباها ، وامتهنت الرقص في أحد فنادق العقبة، لكنّهم لم يتنازلوا عن دينارٍ واحدٍ مِن الثروة الطائلة التي وُجدت تحت فراشها في غرفتها الحقيرة.
كنتُ قد وصلتُ إلى الرقم اثنين وستين، عندما فكرت باستخدام الصراخ طلباً للنجدة، لكن رؤيتها تجلسُ في كرسي المكتب الخشبي الذي استخدمه للدراسةِ ورسم قلوب الحبّ، مرتدية ثوباً أبيض، وملاءة تغطي شعر رأسها المشتعل شيباً، شاخصة نحو النافذة المشرعة، أثار فضولي، وغيّر خُطتي. وقبلَ أن ينطق لساني برقمٍ آخر يليه، اكتظّت الغُرفة بعشرات الأشخاص الذين يرتدون ثياباً بيضاء.
حَسناً، لم أعد قادرة على العدّ; الزحام في الغرفة كان أكثر مِمّا أحتمِل، وبدأتُ أشعر بالاختناق، ثمّ أنّ هناك- على ما يبدو- ترتيبات قادمة لأمرٍ ما ، فكل هؤلاء النّاس يتحركون بطريقةٍ منظّمة تنبئُ أنّ وجودهم في غرفتي لَم يكن عبثاً ، إذ بدأوا بالاصطفاف بشكلٍ يسمح لهم بمتابعتي وكأنّني مركز الحدث.
” هيّا، ارتدي ثيابك”، قالت أم علي موجهة كلامها لي، وألقت ثوباً أبيض، وملاءة أمامي، ثمَّ أضافت:” سنأخذكِ معنا”، هُنا قررتُ إعلان العصيان ، وقلتُ : ” لا ” بصوتٍ يشبه الصراخ، على أمل أن يسمعني أحد أفراد عائلتي خارج الغرفة. لكنّه خرج هامساً وضعيفاً ، الأمر الذي أصابني بالاحباط : ” لا يُمكن أن أغادر معهم . هذهِ المرأة بشعة، ماذا تريد منّي؟ ، ماذا يفعل هذا الخليط من النّاس بثيابهم البيضاء في غرفتي؟ يا إلهي! ” ، ودخلتُ في نوبةِ بكاءٍ على ملأ ، أو بدأتُ أفقدُ اليقظة، عندما خُيّل إلي أنّ صديقي مشرف المكتبة ، يخلعُ حذاءه البنيّ اللامع ، ويبدأ في ارتداء الثياب الملقاة على فراشي.
في الصباح، عندما استيقظتُ من نومي، كنتُ أردد لنفسي :” ألف وواحد، ألف وواحد”” ، ثمّ ساورني بعدها الشعور بالارتياح النسبي ، إذ أدركتُ أنّ تلك الأحداث الغريبة لا تعدو كونها مجرد كابوس ليليّ مزعج، لكنني –لاحقاً-،عندما مررتُ من أمام باب المكتبة العامة الضخم، شاهدتُ لوحةً بيضاء، كُتِب عليها بخطٍ جميل، نعي مشرف المكتبة ، صديقي، الذي توفي ليلاً بسكتةٍ قلبيّة .