تشيكو بواركيه يرصد الذاكرة البرازيلية في «الحليب المسكوب»


مريم جمعة فرج *

يقول “لاري روهتر” المحرر الثقافي لدى صحيفة نيويورك تايمز، عن الروائي والمؤلف الموسيقي البرازيلي “تشيكو بواركيه”: رغم أن أسلوب بواركيه كمؤلف ينطوي على اختلاف واضح في التعامل مع كل من كتابة الأغنية وكتابة الرواية، إلا أنه استطاع أن يحقق الشهرة في كلا المجالين”.

وفي السياق ذاته تندرج روايته الرابعة “الحليب المسكوب” التي صدرت ترجمتها الإنجليزية في ديسمبر الفائت، لتصبح بذلك ثاني أعمال بواركيه، التي تنقلها من البرتغالية إلى الإنجليزية المترجمة “أليسون إنتريكن” بعد ترجمتها روايته “بودابست”2003. في الغرب، وكما يصفها روهتر وآخرون، فإن أعمال هذا الكاتب، تدير رأسك بكلماتها المسكونة بإيقاعات السامبا والبوسانوفا من جهة، وتصدمك بفعل المتناقضات التي ينطوي عليها تاريخ البرازيل، تلك التي تجعله شبيها وغير شبيه بغيره، من جهة أخرى.

الرواية

في “الحليب المسكوب”، يعول الكاتب على ذاكرة بطله “أولاليو دو أسومبساو” وهو رجل يتجاوز عمره المائة بخمسين عاما. وكما نستشف، فهو من حيث المبدأ يثق بها إلى أبعد الحدود. وبالمقابل فإن تلك الذاكرة لا تخونه ولا تخون صاحبها عن قصد. بل تتدفق من داخله طيعة، دون أدنى شعور بالحرج، تغلفها تجربة لا تضاهى في الحياة لا يعرف جيداً إن كانت كلها حقيقية أم لا، إلا أنها تشد الكثيرين ممن يطربون إلى الاستماع إلى مثل هذا المونولوج المرتفع الصادر من أعماقه. كثيرون يتواجدون بالقرب منه، في ردهات إحدى دور المسنين المتواضعة. وبين هؤلاء ابنته والعاملون الذين يقومون برعايته، وكل من يتناهى إلى سمعه، ربما آخر ما يدلي به إنسان مشرف على الموت، فيما تعلو نبرة صوته في أغلبها باحتقار كل هؤلاء، وسط هنات وتراجع طفيف في القدرة على استرجاع بعض الأحداث.

يرتكز بطل بواركيه المؤمن بتفوقه العنصري والاجتماعي والثقافي، على الرغم من هشاشته، وصورته الكاريكاتورية التي يرسمها لنا مؤلفه- حين يوحي لنا بأنه رجل فقير مدع، يعيش بين سكان إحدى مدن الأكواخ والصفيح- يرتكز على تفاصيل يعتبر أنها الأجدر بأن نوليها الاهتمام. فهو الارستقراطي المحتد، قدم أسلافه من البرتغال، وكان يعيش مع عائلته المكونة من أبيه السيناتور وأمه السيدة الأنيقة، التي كانت تهتم بالسفر إلى أوروبا في كل موسم للإطلاع على آخر التطورات في الموضة، كان يعيش في أحد قصور “ريودي جانيرو” حيث تربى. أما جده فهو كما يقول لهؤلاء الذين يسمعونه “لابد وأن الكثيرين منكم، هذا إن لم تكونوا كلكم، من العبيد، وهو ما يدعوني لأن أقول بفخر، بأن جدي كان من أشهر المحسنين الواهبين الخيرات للزنوج من أمثالكم. ولتعلموا أيضا، أنه زار إفريقيا في حوالي عام 1800، وكان يحلم بتأسيس عالم جديد آخر لأجدادكم”. كل هذه التفاصيل تتأرجح جيئة وذهابا لدى بواركيه، حسب صيغة المتكلم وصيغة المخاطب.

إن “أولاليو”، ومن جانب لا يقل أهمية بل ينضح بالثقافة الذكورية، كان قد أقدم على الزواج من “ماتيلد” على الرغم من خلاسيتها، لأنه لم يستطع مقاومة إغرائها عندما نظر إليها أثناء مراسم الاحتفاء بذكرى رحيل أبيه. إلا أن صورة هذه المرأة تأتي باهتة في نهاية الأمر، بحيث لا يعرف المستمع أو القارئ، ما إن كانت في الأساس ابنة أحد زملاء أبيه، أم تلك الفتاة التي تربت في كنف العائلة كما لو أنها إحدى بناتها، أم أنها هربت مع شخص آخر أوماتت أو أودعت مصحة للأمراض العقلية، فشعر بالحزن لغيابها، على الرغم من أنه كما ينوه، لم يكن من المعجبين بذوقها في اختيارها لملابسها أو حتى الموسيقى التي كانت تستمع إليها. كما أن مما يعرفه جيدا عن نفسه، هو أن ذلك النفوذ وتلك المكانة التي اكتسبتها عائلته ما كان لها أن تفقدهما. وأن ذلك السقوط الذي تعرضت له، ما كان له أن يحدث، لولا جملة الأوضاع الاقتصادية والتاريخية التي تعرضت لها البرازيل، على مدى تاريخها الطويل.

ذاكرة

إن من يعرف تاريخ هذه البلاد، يعرف الكثير عن ماض سياسي متذبذب، ما بين الديكتاتورية والاستبداد الطائفي والعنصري. ولعلها من المرات القليلة التي يكتشف فيها القارئ أن تاريخ العبودية في البرازيل قد سبق تاريخها في أميركا بقرن تقريبا. كما أن ذاكرة الاستعمار البرتغالي ماتزال قائمة. ولا تخفى على أحد ذاكرة الفساد والانحدار الأخلاقي، الذي حمل أبناء البرجوازية على التفكير في منفعتهم الشخصية وعلى التصرف غير المسؤول. لقد بددوا تلك الأموال التي جمعها أجدادهم من تجارة الرقيق وزراعة الكاكاو والبن والأسلحة، في الشرب والمخدرات وشراء الأسلحة.

إن رواية بواركيه، على الرغم من تعدد مستويات ذاكرتها ما بين الثقافي والاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، إلا أنها تبقى عملا رصينا، أحداثها وحبكتها في نطاق السيطرة الروائية. كما أن لجوءه إلى إقحام عناصر مثل التهكم والكوميديا السوداء أحيانا من شأنه أن يكسر حدة الشعور بالملل من التفاصيل الكثيرة التي يحتوي عليها العمل، ومن أي سوداوية قد تترتب على تذبذب المشاعر، تجاه بطله الذي يبدو مثيرا للشفقة حينا والكراهية أحيانا أخرى وهو يروي الأشياء من وجهة نظره.

يشار إلى أن تشيكو بواركيه 1944، روائي ومغن وشاعر ومؤلف موسيقي ومسرحي برازيلي. يشتهر بأعماله التي تلقي الضوء على جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بلاده. من أهم أعماله روايات” إزعاج” 1991 و” بودابست”، مسرحية “ قطرة ماء”1975 ، ديوان شعري “ ذات الرداء الأصفر” 1979.


* كاتبة من الإمارات
( الاتحاد )

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *