أنور بدر *
تقليد رائع درجنا عليه في صحيفة ‘القدس العربي’، أن نقدم في نهاية كل عام جولة في الحصاد الثقافي لكل العواصم العربية تقريباً، وفي بعض الأحيان تمتد هذه الجولة لتشمل حصاد الثقافة العربية في بعض العواصم الغربية التي تهتم بثقافتنا، أذكر صديقي الفنان يوسف عبد لكي بُعيد عودته لأول مرة إلى سورية، حين أخبرني أنه كان معنيا بقراءة هذا الحصاد الثقافي عن سورية كل عام، إذ كانت تشكل له في منفاه الباريسي نوعا من بانوراما عن العاصمة السورية، استرجاع لوقائع عرف بها، وأخرى لم يسبق له أن ألمّ بها، تفاصيل، مواقف، أحداث، وفيّات، تكريم، معارض، مهرجانات، إصدارات، عروض، وكثير مما كانت تحفل به رزنامة المشهد الثقافي السوري الرسمي والخاص، غثه وثمينه، مع توقف عند بعض الإضاءات الهامة بالمعنى النقدي، وبما يسمح به المقام.
مع بداية الثورة السورية في آذار/ مارس من العام المنصرم، تراجعت الثقافة السورية في سلم أولويات الدولة حتى كادت تتلاشى هذا العام، كما تلاشت النشاطات الثقافية الخاصة بالضرورة، فمن سيتابع عرضاً مسرحياً أو معرضاً تشكيلياً في زمن الموت والخراب؟ وكيف للناس أن تذهب إلى السينما حيث لا كهرباء ولا مواصلات؟ ومن يجرؤ على التجمع في مكان عام حين يستهدف القصف الجوي طوابير الناس الواقفين أمام الأفران بانتظار رغيف الخبز؟
المشهد الثقافي السوري تغيّر بالتأكيد أو أنه أجهض بشكل نهائي، وليس أدل على ذلك من أنّ وزارة الثقافة التي كانت محل نقد دائم لتقصيرها الدائم في دعم الثقافة والمثقفين، كانت تحفل بأسماءٍ مهمة من مثقفي السلطة برتبة وزير، تختلف معهم، تنتقد برامجهم، تلتقط لهم بعض الأصداء الإيجابية هنا أو هناك، لكنهم في حكومة رياض حجاب قبل انشقاقه عن النظام، والتي أعلنت في حزيران/ يونيو لهذا العام جيء إلى وزارة الثقافة بالدكتورة لبانة مشوح كوزيرة، والتي يمكن لنا احترام سجلها الأكاديمي منذ بدأت التدريس في قسم اللغة الفرنسية من كلية الآداب في جامعة دمشق عام 2005 وحتى تاريخه، إلا أنها كررت مأساة رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور حسين جمعة، والتي أثبتت فشل أو عجز الدرجة الأكاديمية عن صنع مثقفين، ناهيك عن تصنيع قادة للفعل الثقافي على المستوى المؤسساتي، وقد لجأت لاختبار هذه الفرضية على مستوى مجموعة من الزملاء الإعلاميين، وبعض الزملاء المثقفين، حيث فشل سبعة من أصل عشرة في معرفة اسم السيدة وزيرة الثقافة، بعد مضي أكثر من ستة أشهر على مزاولة عملها على رأس الوزارة! مع إدراكنا أن ذلك لا ينتقص من قيمتها الأكاديمية شيئاً، لكنه يُشير إلى الخلل الإداري الذي أوصل الدكتورة لبانة مشوح إلى موقع الوزارة في حكومة اعتبرها النظام حكومة حرب.
وفي حكومة الحرب تصبح لأي دولة أولوية واحدة هي الانتصار بالحرب، وعلى كل القطاعات الأخرى في المجتمع دعم عملية الحرب، لذلك ليس مهما أن يتوقف الإنتاج، أن تتوقف الكثير من قطاعات الحياة، لتكريس آلة الحرب فقط، ولو حاولنا أن نسائل حال باقي المؤسسات الثقافية التي تتبع الوزارة أو تلك التي رُكنت خارجها لما حصلنا على أي نتيجة إيجابية، فمن خلال موقع وزارة الثقافة يمكن لنا أن نُدرك بأنّ إصدارات الوزارة من الكتب قد تلاشت تقريباً، وإصداراتها من الدوريات والمجلات توقفت أيضاً، والأسبوعية الثقافية ‘شرفات’ التي أصدرتها وزارة رياض نعسان آغا، تحوّلت إلى نصف شهرية مع وزارة رياض عصمت قبل أن تتوقف نهائياً، وهذا حال المهرجانات الأساسية للسينما والمسرح والفنون الشعبية التي غابت للعام الثاني على التوالي، كما غاب معرض الكتاب الدولي، وحتى صناعة الدراما السورية تقلصت إلى حدود كثيرة لغياب إمكانيات الإنتاج في ظلّ حالة الحرب، وما بقي من عناصر الدراما السورية هاجر إلى الدول المجاورة بحثاً عن فرصة عمل. وأخيراً يمكن التأكيد أنّ حالة الإعلام السوري كانت أسوأ من حالة الثقافة المتردية، فباستثناء بعض المناقلات الإدارية في مؤسسات الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، لم نلحظ إلا التراجع، أوقفت القناة الأرضية السورية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، والإخبارية السورية ما زالت لعامين تبث بشكل تجريبي، ولم يعد لدينا إعلام خاص غير مؤيد لسياسات النظام وغير مردد لمقولاته، كما تلاشت الشذرات النادرة من وهم حرية الإعلام، إذ لم يدخل سورية أي من مراسلي الفضائيات العربية والأجنبية، لأنها فضائيات مغرضة، فاستعاضت عنهم تلك الفضائيات باعتماد مراسلين ميدانيين ممن كنا نُطلق عليهم لقب ‘المواطن الصحافي’، وقد نجحوا في تغطية الجغرافيا السورية بشكل كامل تقريبا، كما نجحوا في تطوير مهاراتهم المهنية، ولا يتلكأ النظام في قنص هؤلاء الصحافيين، او اعتقالهم، وحسب بيانات ‘منظمة مراسلون بلا حدود’ فقد لقي ما لا يقل عن 17 صحافيا مصرعهم في سورية كما يوجد رهن الاعتقال 21 صحافيا، من بينهم الإعلامي مازن درويش واربعة من العاملين معه في ‘المركز السوري للإعلام وحرية التعبير’. وقبل أن ينتهي هذا العام بأيام قليلة قتل أحد القناصة الإعلامي ‘أبو يزن الحموي’ المتعاون مع قناة الجزيرة القطرية.
وقبل أيام أيضا من نهاية هذا العام رحل الناقد الموسيقي الوحيد في سورية صميم الشريف، رحل بصمت نستحي منه، فهو الذي لم يجرؤ على اتخاذ موقف من هذا النظام الذي خدمه جلّ حياته، لم يجد في هذا النظام أو في وزارة الثقافة من يضع نعوه له، من يشيد بمناقب الفقيد، وبالنسبة لمثقفي الثورة فالأمر خارج اهتماماتهم، لديهم يومياً عشرات وأحيانا مئات الشهداء، مقاتلين وإعلاميين وعاملين بحقل الإغاثة من أطباء وممرضين، منشدي الثورة وفنانيها، فماذا يعني لهم اليوم رحيل صميم الشريف؟
في زمن الثورة اعتدنا ثقافة الموت، واعتدنا ترقب الموت في كل لحظة، زوجتي التي مرّت اليوم قذيفة لم تنفجر بقرب السيارة التي كانت تقلها بين المعضمية والسومرية، اعتبرت أنها اكتسبت حياة جديدة، لكن وجود جثة بعد أمتار من ذلك الحادث لرجل حمل أكياس الخضار لعائلته قبل أن ترديه قذيفة على الأرض هو وخضاره المبعثرة وبعض أشلائه، كانت كافية كي لا تكون سعيدة بتلك الحياة الجديدة، فهي حياة منذورة للموت.
وثقافة الموت مرتبطة بالعد، في البداية يفاجئك سقوط أول قتيل أو شهيد لا يهم، ستكون ردود الفعل عنيفة بالتأكيد، فهو الموت بكل ثقله وفظاعة التصورات والطقوس المتعلقة به، في اليوم التالي تتكاثر الأعداد، البعض يهتم بالتوثيق: هناك قتيلان، عشرة، مئة، أو أكثر من ذلك، إنهم مجرد أعداد لمن يتابع الأخبار، حتى لمن يقوم بعملية التوثيق، تبدأ المشاعر تنزاح جانباً، وتبدأ ثقافة العد تطغى في حياتنا.
في البداية كنّا نعد الضحايا والشهداء، كما نعد في كل جمعة نقاط التظاهر: عشرة ،عشرون، مئة، بل مئات، ويطرأ جديد في قائمة اهتماماتنا، بدأ الطيران الحربي يدخل المعركة، حوامات أم طائرات ميغ وسوخوي القاذفة المقاتلة، بدأت الغارات الجوية كما بدأ إطلاق الصواريخ بعيدة المدى، الأمريكان يوثقون إطلاق صواريخ سكود أربع مرات، وتأتي دائماً مرات لاحقة، حتى يفقد أصدقاءنا الأمريكان شهية العد، لكننا نحن في سورية نبقى مصابين بداء العد، نعد عدد أطفال الذين سقطوا كل يوم، نعد عدد السيدات اللواتي سقطن ، نعد الاصابات والجرحى، نعد البيوت التي دُمّرت بشكل كامل وتلك التي دمرت بشكل جزئي، نعد المجازر التي ارتكبت كما نعد الأفران التي قُصفت، وكم ضحية وقع أمام كل فرن ليعمد خبز الحياة بدمه، إننا اعتدنا العد في كل أيامنا، بل يمكن القول انها الثقافة الوحيدة التي بقيت لنا في هذا الزمن.
أتذكر في هذه المناسبة قصيدة الشاعر الفرنسي ‘جاك بريفير’ عن عائلة لويس السادس عشر، كيف بدأ العد معهم لينتهي إلى نتيجة: كم هي غبية هذه العائلة التي لم تستطع أن تكمل العد حتى العشرين؟ وأقول جازماً أنّ الشعب السوري الذي بدأ لعبة العد، ما زال يملك الذكاء والارادة كي يعد فوق العشرين، بل هو سيعد حتى الانتصار.
* كاتب من سوربا
( القدس العربي )