تخاريف قارئة الفنجان


هانم الشربيني *

( ثقافات )

 

قررت أن أرمى همومي ، أن أعطى جسدي فسحة من كل شيئ، أن أسلمه فى ذلك الحي القديم، أن أجعله يمر في تلك الحارة المتهالكة، سأتنازل عن ملكيتي له ،وأتركه يتحرك كما راقصة حرة ، ترقص بغير جمهور، سأركب الأتوبيس “23”، وأحدف نفسي منه للحمام الشعبي الذى يجلس منذ قرون فى حضن الغلابة، أحب أن أعود لعهد عمرو بن العاص، ويمكنى أن أجد رجلا من زوار العصر الذهبي أحبه كما أشاء وأقبله على طريقتي الخاصة، وأرمي نفسه فى أحضانه من غير سابق معرفة ، أحتاج لأعشاب طبية وزيوت عطرية، فأنا المهاجرة من متاعب كثيرة وخيانات كثيرة وأحباب مسافرين وأحبة فقدتهم بالموت، تتحدث أمل مع آيات صديقاتها فى الموبايل .
آيات :خلى بالك فى سرقة كتير فى الحمامات الشعبية .
أمل :هيسرقوا مني ايه المشاعر وخلصت والفلوس ومافيش .
آيات :الأماكن دي مشبوهة .
أمل :أموت فى المشبوه وإيه فى حياتنا مش مشبوه ،مش دا للنسوان بس يا جهلة.
آيات :يا بنتي الحمامات دى بيستخبي فيها الهاربين من الأحكام والستات العاهات .
أمل :هو فيه عاهات أكتر مني ، سبنى بقى عايز أنسى همومي ،يلا عشان ألحق أروح وأجي .
آيات :ماشي خلى بالك من نفسك .
أنا ناسية إيه خدت الشامبو والفوطة وحطيت الفلوس ولبست شورت طويل وسوتيان عريض”قشطة “،تتحدث أمل مع نفسها .
تدخل أمها الغرفة فجأة :رايحة فين يا مجنونة، إمتى بقى راجل يرضى يشمك عشان أرتاح منك .
أمل :رايحة فى داهية ، رايحة مركز شباب الجزيرة ،
الأم:ربنا يكملك بعقلك إنتى خلاص عقلك ضرب ، حاسبي الباب هيكسر من رزعك ،تيجي بدري .
تمشي أمل بضعة أمتار قليلة ، تصل بسهولة لموقف أتوبيسات حدائق القبة ، تسأل أحد الواقفين على الرصيف “وهو أتوبيس 23 بتاع باب الشعرية وصل .
يرد الرجل :أه يا بنتي على الرصيف التاني
أمل شكرا يا عمو، تصعد للأوتوبيس تجلس على كرسي بجوار الشباك ، لتنظر للأماكن وتهرب من فضول الجيران المزعجين بجوارها فى الأتوبيس .
يصعد السائق لتحصيل الأجرة .
أمل : لوسمحت نزلني عند محلات الألومنيوم إللي فى باب الشعرية يا سطة .
السواق حاضر يا قمر.

تضع أمل رأسها على الزجاج الملامس لها ، تسرح فى نفسها ، تتتذكر بقوة محمود حبيبها الذى تركها وسافر للندن دون إنذار ، فقط ترك إميل يخبرها بسفره وفى ذيله كلمة باردة هتوحشييييييييينى يا مزة ، الدموع تتسرب إلى عينيها تحاول السيطرة عليها بسرعة ، ينادي السائق بسرعة الآنسة إللي نازلة باب الشعرية تقرب على الباب ، تحاول الفكاك من الأجساد الواقفة فى منتصف طرقة الأتوبيس بصعوبة شديدة ،تتذكر كلمة “آيات “صاحبتها “المفروض تعملى إختبار dna””بعد ما تخرجى من الأتوبيس ، تهبط أمام حارة ضيقة على رأسها ، يقف رجل بعربة كبدة مستوردة تعلوها يا فطة كبيرة لحوم 25 يناير، وتحتها كلمة تخطف ضحكتها :ممنوع أكل الإخوان المسلمين ، بعده تأتي محلات ألومنيوم كثيرة ، وبجوارها باب يقف على إستحياء ، وعلى رأسه يا فطة صغيرة مصنوع من الصاج ، تشبه صاج نمر السيارة المتهالكة تحمل عنوان حمام بخار للسيدات فقط ، تدخل أمل الى الباب ، تشعر كأنها تنزل من مبنى القلعة ، كأنها تجرى على الأسفلت ،تدخل إلى صحن الحمام الشعبى الذى يشبه صالة منزل رثة مليئة بالكراكيب والحصرالبلاستيكية،تودع الواجهة المزخرفة باللونين الأبيض والأحمر ،أمامها إمرأة بدينة تجلس على كرسي خشبي وبجوارها طفلة عارية تماما وحولها نساء يرتدين عبايات سوداء ، ترد بينها وبين ذاتها: “لوكان بينطق كان طلب الكرسي الإسعاف لنفسه “، تحدثها :أيوة يا حلوة طلباتك عروسة ولا جاي تستحمى عادي ، كل حاجة ولها سعرها .
أمل :طيب قوللى الأسعار كدة
صاحبة الحمام :العروسة 250 ، الحمام العادى 20، الحمام بالمسك المغربي 40 جنية، شوفى إللى تطلبيه.
أمل :أنا عايزة أعمل ماسك لجسمي ، تدفع الفلوس.
صاحبة الحمام :طيب ادخلى إقلعي وروحى أوضة البخار ، ولو معاكى شنط عايزة تسلميها ، هاتيها .
أمل :دى الفوطة والشامبو يا أم صباح .
تدخل أمل داخل الحمام ، تتأمل المكان بعين مصورة صحفية ، يتألف الحمام من حجرات متعددة مرصوفة بالرخام الأبيض والأسود، تخلع ملابسها فى الغرفة المخصصة لخلع الملابس ، يذكرها المكان بالأماكن الأثرية كأنه خلق لينعزل عن العالم ،هدووء غريب فى المكان بأكمله ،لا صوت سوى لنساء عاريات يكلمن بعضهن أو ضحكات للبلانات العاملين فى الحمام ، ولكل منهن تخصص ، تدخل لغرفة خلع الملابس ، ثم تتجه لغرفة البخار ، عبارة عن فسقية تمتلئ بالماء الساخن وحولها سور تجلس النساء عليه ، لم تجد أمل فى الغرفة سوى سيدة واحدة تجلس عارية تماما ، بينما قررت أمل الخجولة الإحتفاظ بالشورت والسوتيان ، تجلس أمل على السور، تشعر براحة كبيرة عليه ، فالبخار يحتضنها كما لوأنه حبيب مخلص قرر أن يعبر لها عن حبه، تشعر بدفئ من نوع خاص .
تقطع صمتها السيدة التى تجلس معها بسؤالها :إنتى عروسة …؟
ترد أمل :لا أنا جاية أستحمى عادى ، ترد السيدة: أنا من زبائن الحمام ، جوزي كل أسبوع بيوصيني أجى هنا عشان البخار بينعم جسمى ، تومئ أمل برأسها وهى تقول لها :أه كويس ،تواصل السيدة الحديث : كمان الحرارة بتزود الخصوبة ، تضحك أمل: والله كويس ،لمدة ربع ساعة تنتظر أمل دورها وهى عارية ،ثم تفاجئ بصوت البلانة :خلصتى يا مزة ،ترد أمل عليها بلهفة : أيوه يا قمر ،ثم تهبط من غرفة البخار لتنتقل إلى غرفة تنام فيها على مصطبة من الحجارة وتغطى البلانة جسمها بماسك الترمس وتتركه 10 دقائق ، وتقوم بتدليك جسمها ، ثم تتوجه لغرفة الشطف التى تحمل دشا يشبه المنتشر فى المساجد وبه ماء بارد وساخن ، بعد ربع ساعة تنتهى أمل من الإستحمام ، تنشف جسدها بالمنشفة للمرة الأولى تشعر أنها تمتلك جسد عروسة فى حاجة لنظرة زوج ، تتجه لغرفة الملابس وترتدى ملابسها التى أخذتها منها سيدة عجوزة يملئ شعرها الشيب ومن مشيتها يبدو أنها كانت راقصة محترفة قديما ، تسلمها الملابس وتقولها :بقيتى قمر ،تفهم أمل نيتها وتمنحها ما فيه النصيب ، قبل مغادرتها تفاجئ بها توقفها وتقترب منها وهى تقول :على فكرة فيه هنا دلوقتى خالتك صالحة ، بتقرا الكف والفنجان اخرجي شوفى بختك ،ربنا يصلح حالك .

تودع أمل الحمام ونساء قادمات على الباب ،تخرج لمدخل الحمام من جديد ، تشاهد سيدة بدينة تجلس على المصطبة الأسمنتية وبجوارها معظم العاملين فى الحمام وفى يدها فنجان قهوة صغير، كلامها حمل بشرى سارة لكل السيدات والبنات ،فأطلقوا ضحكات عالية مثيرة ،قررت أمل أن تقترب منها ومدت لها يديها .
العرافة :يا حبيتئ هتحصل لك شوية مشاكل وهتعدى ، هتحبى ومش هتجوزى إللى بتحبيه ، هيقابلك فى شغلك واحد هيحبك وهيغيرعليكى وهيجوزك.لم تكمل أمل سماع باقى كلماتها بل قامت بسحب يديها بسرعة، وقبل أن تتركها تدس يديها فى جيبها وتمنحها خمسة جنيه ، تحاول السيطرة على دموع على وشك السقوط ،تخرج من الحمام بسرعة، وتنتظر أتوبيس 69 على ناصية الشارع .

* كاتبة من مصر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *