د. أحمد محمد سالم
في ظل اجواء ما بعد الخامس والعشرين من يناير كان من المفترض أن يسود جو من التسامح, والحرية في ابداء الآراء, ووجود فقه للاختلاف بين التيارت الفكرية والسياسية المصرية, ولكن الغالب علي المشهد السياسي والفكري هو الاتهام المتبادل بالعمالة والتخوين بين النخب الليبرالية والإسلامية.
سعي كل فصيل سياسي وفكري لاقصاء الآخر لحسابه الشخصي, دون أن يكون هناك سعي واضح لبناء ايديولوجيا فكرية جامعة لاحداث نهضة في وطننا الذي ظل قابعا في التخلف لعقود طويلة, وهنا تبدو الحاجة إلي اعادة النظر في قيمة الشخصيات التي يقترب فيها الإسلام من العلمانية ولعل أهمهم الشيخ أمين الخولي.
تأثر أمين الخولي في رؤيته التجديدية بنظرية التطور وكان ذلك نابعا من تأثير سلامة موسي واسماعيل مظهر علي فكره, حيث ينطلق التجديد الديني عنده من أهمية مقولة التطور, وضرورة ربط التجديد الديني بالتطور, ورأي أمين الخولي ضرورة أن تعم نظرية النشوء والارتقاء في النظر إلي الوجود ككل, فإن سنة النشوء والارتقاء مضطردة تعمل في الوجود كله, وأن جميع الأفراد, والأعمال, والأمم, وتغير حاجاتها الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية تجري علي هذا النظام باطراد, ولهذا فإن نظرية التطور تنطبق علي حياة الشعوب, ولا يوجد شعب يعيش في برج من العاج, ولا ينفذ إليه أثر ما حوله, فالعالم دائم التفاعل في حياته, وخاضع في ذلك لسنن النشوء, والارتقاء والتدرج, والتأثير والتأثر,.
ومن خلال تأثر أمين الخولي بالمنهجية التطورية سعي إلي تقديم رؤيته في الإصلاح, والتجديد الديني, حتي يساير الدين حركة الحياة, والتجديد مهم للإسلام لأنه ليس دين عبادة فقط, وإنما هو نهضة دينية ومدنية معا, والإسلام يتسع من جهة هذه الغاية للتجديد في كل زمان, فيقول ز, كل زمان ومكان, ولن يصلح للمسايرة بصورة واحدة لزمان واحد, ومكان واحد, فكيف إذا كان هذا الزمان منذ مئات السنين . الحياة, ويبدأ التجديد عند الخولي من استيعاب القديم وتجاوزه فأول التجديد قتل القديم فهما, وضرورة التحرر من الماضي, والتقيد به, والوقوف عند حدوده التي وقفت بطبيعة الأمور عند المستوي العقلي, والاجتماعي لأهل هذا الزمن الماضي, ويتجه التجديد بعد ذلك من خلال إدراك الكليات العامة التي جاء بها الإسلام, وتقديم رؤية مستنيرة لها وفقا لظروف المجتمع, ومتطلبات الواقع.
وتمحورت دعوي التجديد عند أمين الخولي في التركيز علي البعد الاجتماعي للإسلام, أي علي البعد الدنيوي, ولم يخض كثيرا في الإطار الغيبي للإسلام الا باعتباره دافعا للحياة الدنيا, وبدا له الإسلام محاولة إصلاحية كبري لتنظيم روابط الجماعة الإنسانية, وتنسيق للنفس البشرية في صور وجودها المختلفة, من وجود فردي مستقل, ووجود جماعي شامل, علي اختلاف أحوال الجماعات التي يندمج المرء فيها, ويري الخولي أن الإسلام لم يأت في المشكلات الاجتماعية بغير الكليات العامة القابلة للتفسير في كل زمان فالقرآن عودنا في تدبيره الاجتماعي ألا يمس سوي الأصول الكبري للإصلاح تاركا وراء ذلك من تفصيل للتدرج الحيوي, والجهاد العقلي الإنساني, لينتفع في ذلك بكل ما يسعفه عليه نشاطه, ويؤهله له تقدمه ويقدر الإسلام في ذلك اختلاف الأحوال, وتغير الزمان, وفي ضوء الكليات العامة للقرآن رأي الشيخ أمين الخولي مشكلة المال في القرآن, فيري أن القرآن قدر للإنسان حب التملك.
زين للناس حب الشهوات من النساء, والبنين, والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة
فالهدي القرآني عرف للبشرية حبها للتملك فأرضاها لونا من الإرضاء, ولكنه حاول توجيهها في تعلية هذه الغريزة, فسعي إلي هدم أركان هذه الرغبة في التملك وأتوهم من مال الله الذي إتاكم ز(33) ز ز(91) في أيدي الواجدين, وعطائهم للفاقدين, أنهم يعطون إعطاء التارك المتجاوز, وهو تأسيس, وتأصيل للشعور لدي الواجدين بعدم الأثرة في هذا الثراء, والتفرد بهذا الغني, وهي الفكرة التي يعمل الهدي القرآني لتكوينها, وترسيخها في نفوس أصحاب المال ومن ثم يري الخولي أن القرآن حين يحمي الملكية الفردية واقعي: لا يفاجأ الناس بتجريدهم من أموالهم تجريدا يفتر همتهم, ويثني عزائمهم, ويقعدهم فلا يبتكرون, ولا يجدون, ولا يزودون عن حماهم, ثم هو حين هز أسس الملكية الخاصة يكون مثاليا يكفكف من غلواء الأغنياء, ويزلزل صلتهم بأموالهم, ويجعلها للناس جميعا, وأصحابها عليها أمناء مستخلفون.
ويؤكد أمين الخولي أهمية العمل في الإسلام, فالنظرة الفاحصة للقرآن لتدلنا علي تصريحه بأن الحياة منظمة بنواميس عملية مضبوطة بنظم واقعية خارجية, والنجاح فيها, والظفر بخيرها إنما هو مرهون بعمل العامل الخارجي, ومترتب علي الكفاح العملي, ومرتبط بالإدراك الصحيح لواقع الأشياء الكونية, والتقدير السليم لنظم هذا العالم, وتدبيراته, ولن يغني الإنسان عن ذلك شئ آخر من شئون اعتبارية معنوية, أو نفسية روحية إلا إذا قام علي واقع, وصار أمرا مشاهدا, وحاضرا ثابتا, فما عدا العمل من نية طيبة, وسريرة خيرة, وخلق كريم, وعقيدة صحيحة إن كان وحده فقط بلا عمل فلا جدوي له, ولا أثر في هذه الحياة الدنيا, وهنا نلاحظ مدي تركيز أمين الخولي علي أهمية البعد الدنيوي المادي في الإسلام, والذي ينبغي إبرازه في ظل تدهور وضع الأمة الإسلامية, لأن هذا الجانب يمكن أن يسهم في نهضة الأمة وتقدمها.
وأعطي الخولي أولوية للعقل علي النقل في قضية تفسيرالقرآن و أسس الخولي ما يعرف بالمنهج الأدبي في التفسير, وتعتبر قضية نقد التفسير العلمي للقرآن من كبريات مقاصد التفسير الأدبي عند الخولي, فينتقد التفسير العلمي للقرآن, لأنه يكشف عن سيطرة الروحي المكبلة لحركة الزمني ويقول كيف تؤخذ جوامع الطب, والفلك, والهندسة, والكيمياء من القرآن, وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحدا إلا وتغير ضبطه لها بعد يسير من الزمن, أو أكثر, وما ضبطه منها القدماء قد تغير عليهم فيما مضي, ثم تغير تغيرا عظيما فيما تلا فنقد الخولي للتفسير العلمي هو دعوة واضحة للفصل بين العلم والدين, فالعلم زمني معني بالأمور الدنيوية, وفي حالة تغير مستمر, والدين ثابت, ولهذا يذهب الخولي إلي تحرير العقل من سلطة النص, والزمني من سلطة الروحي.
ويتجه الخولي إلي الحديث عن دعائم الاتجاه الأدبي في التفسير, والذي يركز علي دراسة القرآن كنص أدبي يطبق في فهم نفس منهجيات دراسة النص الأدبي فيقول إن الدراسة الأدبية لأثر عظيم كهذا القرآن هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا وفاء بحق هذا الكتاب… فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس سواء نظر إليه الناظر علي أنه كذلك للدين أم لا, ويهتم التفسير الأدبي بالكشف عن أهمية البعد النفسي لآيات القرآن الكريم, فالتفسير الحقيقي للقرآن عند الخولي لا يقوم إلا علي إدراك ما استخدمه من ظواهر نفسية, ونواميس روحية, أدار عليها بيانه مستدلا, وهاديا, ومقنعا, ومجادلا, ومثيرا, ومهددا, فأصبح ما يبني عليه هذا التفسير هو القواعد النفسية, فليس يصح أن يصل عبارة من عباراته, أو يحتج بلفظ من آياته, أو يستشهد بأسلوب من أساليبه إلا بموقعه كله من النفس, وبما يكشف العلم عن هذا الموقع, وما سبر من أغواره فبالأمور النفسية لا غير يعلل إيجازه, وإطنابه, وتوكيده, وإشارته, وإجماله, وتفصيله.
وتبدو قيمة العقل بارزة عند الخولي في دعوته لضرورة الأخذ بالعلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات, وكان يدين الثقافة الدينية السائدة في اعتمادها علي إنكار التعليل, ويري أن جوهر الإسلام يتعارض مع هذه الفكرة, فالإسلام لا يمني أهله بالمعجزات, ولا يكلهم إلي المفاجآت, ولا يطمعهم في كرامة تسخر لهم قوي الكون, فيواجهون الحياة غير مسلمين بأن لها نواميس مضطردة, ولا مقتنعين بأن فيها نظما ثابتة, فهم يتقاتلون بالتسبيح, ويغزون بالترتيل, وينتصرون بالأماني وكذب وهم المدعين في ذلك, فالأصل القرآني هو ما سمعناه ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض, وكان الخولي ينصح تلاميذه قائلا: خذوا بالسببية تعيشوا عصر العلم, فالثقافة المدنية الحديثة أحدثت تقدما في بلاد أوروبا لأنهم آمنوا بالثقافة العلمية المعللة المسببة, والثقة بالأسباب, والتمسك بالنتائج, والاستعداد لتحمل المسئولية, والانتفاع بالتجربة, وهو ما يؤدي إلي تقدم الشعوب. ويكشف الخولي عن مدي العلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة فيقول يتحدث الراصدون لسير الكون عما بين الأديان والسلطان من صلة وثيقة, وتفاعل قوي, صلة بين العقيدة والحكم, بين التدين وقيادة الجامعات, أو بعبارة أصرح بين الدين والسياسة, صلة محكمة العري بعيدة الأثر, ويحس الباحثون أن الدين والسياسة فيما يشبهونهماكظاهر الثوب وبطانته, الظاهر العقيدة والبطانة الحكم, أو الظاهر السياسة والبطانة الدين سواء وأن العقيدة ترسم وتوحي والحكم ينفذ ويتحري, أو السياسة تدبر وتقصد والدين يقدس ويشرع ويعلن, وكل يتأيد بصاحبه مهما اختلفت ألوان ذلك وتغايرت, ويري الخولي أن التوجيه بين الدين والسياسة يتأثر باختلاف الأهواء, واختلاف الضمائر والبيئات, فقد يرشد حينا ويوفق, وقد يضل حينا ويغوي, فإن ضل فالحاكم مقدس وحقه إلهي, وإذا بحراس المعتقد رجال الدين يحلون له من أرواح الناس, وأموالهم ما يشاء, وغير محاسب, وإذا الناس يعانون عنتا مرهقا, وظلما كبيرا. وانتقد أمين الخولي النظم الثيوقراطية في الحكم, فحين يتحدث عن عهد الإمام مالك ينتقد الدولة العباسية, ويقول بأن العهد العباسي شهد انقلابا سياسيي المظهر ديني الأساس, ولعله أعظم ما عرف في تاريخ الإسلام من انقلاب في عمقه وعنفه, وسعته وبعد أثره, حيث تغيرت الدولة بأساليب حكمها الفردي الثيوقراطي, وبدا أن الأصول الكبري للنظام السياسي العباسي تؤصل الحكم الفردي, بل والفردي غير الشوري, وتجعل هذا اللون من الحكم يترك أثارا واضحة في مظاهر وجودهم المختلفة, وإذا كان الخولي ينتقد تجربة الحكم الثيوقراطية في عهد الدولة العباسية, وعدم رضاه عن صورة الحكم في الإسلام الحضاري والتاريخي, فإنه يتفق مع معظم العلمانيين الذين يركزون في رفضهم للحكم في الإسلام علي الصورة السيئة لنموذج الحكم في الإسلام التاريخي والحضاري.
( الأهرام )