سلمان رشدي: لَعنة أدبيّة



ترجمة عبد الغني بومعزة *


( ثقافات )

****
– أنا روائي و ما أريد القيام به هو العودة إلى عملي الحقيقي / سلمان رشدي

[ 1 ]
.. آخر شيء يرغب سلمان رشدي القيام به في حياته المهدّدة بالموت هي العودة لعمله الحقيقي الذّي يبدع فيه ويجد متعة في القيام به إلاّ وهي الكتابة، كاتب مثير للجدل عاش وقتا طويلا متخفيّا تحت طائلة القتل(أنا كاتب وكلّ ما أرغب فيه هو العودة لعملي الحقيقي الذّي أتقنه)، قالها لوكيل أعماله البريطاني(( andrew wailly ))،قال:(أريد كتابة الخيالي، لهذا أصبحت كاتبا وهذا ما أرغب فيه و أحيا من أجله; منذ فترة طويلة وأنا أقوم بهذا العمل ولم أشعر البتة باللاجدوى منه)، و لقد وجد صاحب مؤلف”آيات شيطانية”و”أطفال منتصف اللّيل” و”العار” وغيرها من المؤلّفات المترجمة لعشرات اللّغات نفسه مرّة أخرى تحت خطّ النّار بعدما أدلى بدلوه في الفيلم الأمريكي” براءة المسلمين/ innocence of muslims ” عندما قال بأنَّ الفيلم دون المستوى الفني!!. تدخلت المؤسّسة الدّينية الإيرانيّة المعروفة ب”15 خورداد” وهي ذاتها المؤسّسة التّي عرضت 500 ألف دولار أمريكي لاغتياله، هذه المرّة رفعت العرض و جعلته 3.3 مليون دولار من أجل رأس الرّجل الأكثر استفزازا للمسلمين والإسلاميين في العالم، وفي هذا السّياق صرح ((آية الله حسن سانائي)) -رئيس المؤسّسة-: (مادامت لم تنفذ الفتوى التّاريخية للخميني بقتل المرتد سلمان رشدي سيبقى التطاول على الإسلام والنّبي الأكرم والأشرف قائما ، وأكبر دليل على هذا هو الفيلم المسيء للإسلام والمسلمين)، ثمّ (لقد أصدر الأمر لقتل سلمان رشدي من أجل استئصال جذور المؤامرة التّي تحاك ضدّ الإسلام وأظنّه الوقت المناسب لتنفيذ هذا الأمر)،وفي نفس الوقت و للمفارقة الكبرى تصدر هذه الأيّام مذكّرات سلمان رشدي التي تحمل عنوان ((جوزيف انطون،مذكراتي/ joseph anton)). يحكي فيه الكاتب هندي المنشأ حياته تحت تهديد الفتوى و كيف عاش متخفيّا تحت حراسة الشرطة المتشددة و كيف أن حياته تأثّرت كثيرا بهذه العزلة. اليوم نقوم بترجمة هذا النّص النّادر والمختار من كتابه الأخير بعد الاختفاء(( جوزيف انطون، مذكراتي))هي نفسها اللّعنة التي يظنّ رشدي أنها تعيش أيّامها الأخيرة وهو يكتب هذه السّطور،لا أحد يعرف ما ستكون عليه حياته بعد ظهوره العلني، لكن ما هو مهم أن سلمان رشدي مازال محافظاً على براعته الكتابيّة ولم ينقص منها شيء كالغوص في أعماق الأزمات النّفسيّة التّي عاشها لسنوات إلى حدّ أنّهُ فكّر في الانتحار ، ومرّة أخرى قال أنّهُ فكّر في الهرب إلى عالم لا يعيش فيه المتطرفون ..

[2]

..(( نعيش في عصر التّفسيرات لكن بالمقابل أصبح فهمنا لما يدور حولنا صعبا و إن لم أقل مستحيلا،افتحوا جرائدكم وشغلوا الرّاديو والتّلفزيون، ستجدون أنفسكم غارقين في حشو كلامي لمتخصصين يطلبون منك تغيير رأيك في موضوع ما لديك وجهة رأي مختلفة تماماً فيه ،وقبل هذا هل تعلمون؟، يقدّم العلم عشرة تفسيرات في الدّقيقة بينما الدّين يعتبر أنّه يملك الإجابة المطلقة، تمرّ الأيّام وفي الخلفيّة نجد الكبار يتوبون عن أخطائهم، تشوهاتهم الدّاخليّة وأكاذيبهم، لذا أفضّل تسميتهم ب (( أساتذة الواقع والحقيقة)). أستعير عبارة((saul bellow))عندما كتب عنهم: (إنهم في كلّ مكان)، فتدريس الواقع على ما أظن هو أكثر الصّناعات ازدهارا في عصرنا، فالمكتبات مليئة بالمراجع والمؤلفات الوثائقيّة وهذا لأننا فقدنا إيماننا بأحلامنا، نظن أنّ الوقائع هي الحقيقة، بينما في الحقيقة كتب الخيال والإبداع هي الأكثر شعبيّة لدى النّاس، لكن للأسف معظمها و ليس كلّها محشوّة بالهراء، في حياتنا الخاصة ندفع مقابل الجّلوس في مواجهة رجال ونساء”حكماء”، نبحث عندهم عن تفسيرات لضعفنا وهشاشتنا. فوضانا الدّاخلية وأحزاننا، لكن لا ندفع لأحد ليساعدنا على فهم أفراحنا وسعادتنا،لماذا؟، ببساطة لأننا بإمكاننا شرحها،أو من الأفضل القول بأنّ السّعادة لا تحتاج لشرح أو تفسير، فقط الضّيق والشّعور باللاجدوى تتطلب حكيما ليخفف عنا حالة الثّبور التّي نعيشها، كنت دائما أقول واكتب أن العلاقة بين الأعمال الفنيّة والمفسرّين غامضة جدّا، فنقول:” الكاتب الكبير يحتاج لناقد كبير”، وأمثلة أخرى من هذا القبيل، أفكّر في((william faulkner)) و((malcom cawlley ))،حيث أنَّ نقد العمل الإبداعي أيّا كان يبدو عمليّة أساسيّة، تخيّلوا كيف ستكون السّرياليّة دون((André Breton))، في نفس الوقت شيء ما في فعل الإبداع يقاوم الشّرح والتّفسير،شيء ما في طباع الفنانين المبدعين يدفعهم للخوف من إعطاء تفسيرات شديدة الحماسة. منذ سنوات شاركت في ملتقى أدبي في ألمانيا حيث صدمت بمجموعة من الكتّاب الأنجليز الفوضويين، منهم: ((Ian McEwan))و((James Fenton ))و((Caryl Phillips)) الجمهور الحاضر عندما قالوا بأنَّ الأبحاث التي قاموا بها والتّي أخذت منهم وقتا وجهدا لم تكن ذات جدوى وفائدة!. في ذلك الوقت سالت نفسي إن كنا نحن الكتّاب نقول الحقيقة أو الأمر يتعلق بموقف دفاعي.
اليوم أصارحكم القول:( أجد في مديح المعلقين وما شابههم يسبّب لي حرجا كبيرا لذا أفضّل قراءة أعمالي التّي تعبّر عني وعن أفكاري، و مثل الكثير من الكتّاب أملي هو إهداء حكاية تدفع الآخرين لنقاشها،أن أبقى في الظلّ بينما كتابي هو الضّوء،لكن اليوم، إذا أراد كاتب ما إصدار عمله فيطلب منه و هذا ما أراه مستهجنا أن يعلّق عليها ويمتدحها، كلّ كاتب مع الوقت يخالجه شعور بالخوف من صوته وهو يكرّر بلا كلل للصحافيين من دول شتى تفسيرات حفظها عن ظهر قلب.
في المحصلّة،إذا استمرّت هذه العمليّة ولوقت طويل سنصبح غرباء لإبداعنا ومؤلفاتنا ))..

[ 3 ]
..(( فيما يخصني هذا الميل للهرب من التّفسيرات زاد من حدته الجّدل الكبير الذّي أثير عند صدور((آيات شيطانية))، يبدو لي أن أيّ كاتب سيجد نفسه كما حدث لي مطالبا بالدّفاع عن نفسه وعن مؤلفه مقدِّما تبريرات تفاصيل شتّى في مواجهة مواقف كثيرة منها جامد ومعاد ومؤسّس على الجّهل،حيث تتمّ قراءة بعض المقتطفات من هذا النّص مع العلم أنها مقاطع مقصودة ومختارة بعناية لاختلاق أزمة لا علاقة لها بالكتاب، أو ترجمة متحيّزة أو قراءة من خلال المرآة المشوّهة للمساس بالدّين ،هذه (الحقائق) و(الادّعاءات) على (الثقافة)، هذه الكلمة كثيرا ما أسيئ لها والتّي لا تحتمل هذا لأنّها ببساطة(حسّاسة) ، كما هي بالنسبة لي، في اعتقاد الكثير من القرّاء بما فيهم المسلمين هذه الافتراضات والأحكام المسبّقة جعلت من الكتاب ومؤلفه كيانات لا تستحق دراسات جادة، لم يكن ضروريا قراءة ( آيات شيطانيّة) للحصول على رأي ما بما أن حقل التّفسيرات الغاضبة متاح ومتيسّر للجّميع ويضمن حكما مسبّقا بأنّه لا شيء في جعبة الكاتب:” ما الجّدوى من السّير في الحضيض لمعرفة ما يوجد بداخله” ،هذا ما كتبه أحد النّقاد وأعتقد أنّه لم يقرأ الكتاب، نعم،ل م يكن ضروريا القلق حول الكاتب بما أن ذاتها الأصوات المدعاة للصمم وعندما أقول هذا فأنا أقصد أصوات الجّميع بدون استثناء، كلّها تقول وتخبر الجّميع كم هو رخيص هذا الكاتب، ولمقاومة هذه الهجمة الشّرسة كنت مطالبا وإن كنت أفضّل كتابة محكوم عليّ تكرار ولمئات المرّات حسب وجهة رأيي ما يحمله كتابي، وشرح لماذا كتبته بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى أو بهذا الأسلوب ، وإذا أخذنا بعين الاعتبار كلّ هذا فأنا مجبر أيضا وبشكل ما، الشرح لهم إن كنت مجبراً على كتابته، بينما لو امتنعت عن الردّ أو ما شابه ذلك كان يمكن أن يكون ألأمر أسهل بكثير للجّميع، وشعرت كثيرا من الأحيان بأنني كنت مطالبا بتقديم إشعار في قالب تفسيرات مقنعة من(سلمان رشدي)، بدلا من هذا كان بإمكانهم مناقشة الموضوع والأفكار والشّخصيات والمشاعر واللّغة والشّكل والنّغمة،هذه أشياء تهمّ الجّميع، لكنني وجدت نفسي وفي وضع صعب أبرّر حقي في أن اكتب، ” لقد فعل ذلك عن قصد وعمد” ،قال النّاس:” كان يعرف ما يقوم به”، لم يكن يهم المحتوى أحد أو إن كان الموضوع يدفعهم للخوض لنقاش قضية ما، لا أكثر،كنت مجبرا على تقديم توضيحات كنت في غنى عنها، هي توضيحات مرهقة ودون ذات جدوى، بصراحة هذا الموضوع لم يكن يشعرني بالارتياح ولم يكن مسليا، ظروف استثنائية وضعتني في موقف لا أحسد عليه، حيث وجدت نفسي مدفوعا لفعل ما يناقض أفكاري وآرائي ككاتب; أقصد،أي كاتب يحترم نفسه لا يقبل القيام بما فعلته; حيث أنَّ محاولة فرض قراءتي الخاصة لعملي الأدبي على الآخرين، يحدّد أو يصف معانيه، أعلن عن نواياي أو أشرحها عن كلّ فقرة أو كلّ صورة خلافيّة،إثبات أن الكتاب بريء، وله ما يبرّره،أخلاقي، وأيضا وهذا مهم أنه كتاب جيّد، من يدري،في مواجهة هجوم عالميّ مطالب أنا لإثبات للجّميع بأنّه ظالم،غير صحيح، ليس له ما يبرّره،غير شرعيّ،لا أخلاقي وشائن )) ..

[ 4 ]

..(( اعتقدت دائما ومازلت اعتقد بان واحدة من أفراح الأدب الكبيرة وهي بالطبع أفراح كثيرة أن نترك القارئ يتمّم الكتاب، يجب على كلّ قراءة للنّصّ أن تكون مختلفة مما يجلب القارئ إلى المغامرة، ورغم ذلك وهذا من المضحكات فأنا عبر المقالات المتتالية والحوارات العديدة من حاول إنقاذ روايتي من النّقاد بقول:” هذا المقطع يعني كذا” ، و”وينبغي قراءة هذا الجّزء بهذا الشّكل” ، حتى اليوم، خمسة وعشرين سنة من بعد كتابة(آيات شيطانيّة)، مازالوا يطالبونني بتقديم كشف حساب الدّوافع التّي دفعتني لكتابة هذا الكتاب، يوما بعد يوم، كتابة هذا النّصّ هو الإجابة الحقيقيّة:” لا أتذكر”، مازال غير كاف وغير مرض، لذلك وضعت إجاباتي الصغيرة التّي ترضي بعض المحققين،أما الآخرين فهم بالمجمل غير قادرين على استيعاب أيّ شرح، لكن هذا يسبّب لي زيادة في الاضطراب،لا أخفي عليكم فأنا أيضا أصبحت أستاذا في الواقع، أي انقياد أحمق هذا دفعني للسّقوط في فخّ شرح شخصياتي ودوافعي، وأيّ حماسة هذه جعلتني أتحدّث عن أفكاري ونقيضها،أيّ كتاب و مؤلف هذا يحتفظ بهالة الغموض عندما يسلّط الكاتب الأضواء على أصوله ومعانيه وزواياه الأكثر عتمة؟،ألا يستطيع هذا الكاتب السّكوت و يترك كتبه تتكلّم عن نفسها أو بالأصح تدافع عن محتواها؟ ،حسنا لقد حان الوقت،أقصد، والآن بعد أن هدأت العاصفة، ربما ستعرف( آيات شيطانية) معنى السّلام أو الحياة العاديّة، هذه الحياة التي لطالما حرمت منها، ربما الناس سيقرؤونه مثل أيّ كتاب،متأكّد بان هناك من سيكرهونه وآخرون لن يقدّروه والبعض الآخر غير مبال إطلاقا به و وبعد ذلك سيكون هناك من سيحبّونه ولو قليلا،هكذا تعيش الكتب في العالم، وإذا قدر لكتابي أن يعيش في سكينة وسلام فهذا يعني أنّهُ لم يكن من الجدوى القتال )) ..




المصدر : الموقع الأدبي http://laregledujeu.org الفرنسي .

* كاتب ومترجم من الجزائر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *